أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | الجيوبوليتيك وإنسانية الإعلام في حلب
الجيوبوليتيك وإنسانية الإعلام في حلب
الاعلام في حلب

الجيوبوليتيك وإنسانية الإعلام في حلب

لا يمكن إنكار حجم المأساة الإنسانية التي خلّفتها معركة حلب، والتي هي امتداد لمسلسل الأزمة السورية منذ بدايتها. لكن تعاطي المحطات التلفزيونية ووكالات الإعلام العالمية مع تلك المأساة، والتقاط أكثر الصور احترافية لأطفال تحت الأنقاض، أو لرجال ونساء بين الركام، أو للسوريين الخائفين من القصف الذي يمكنه في أي لحظة أن يودي بحياتهم وحياة أطفالهم، لا يمكنهما بأي حال أن يكونا مجرد تعاط مؤسس على «الشعور الإنساني النبيل».
صحيح أن الصحافيين الناقلين للمأساة من الميدان، بكل خلفياتهم المعرفية والسياسية والمهنية هم بشر يتفاعل مع ما يوثقه، وكثيرا ما تطغى العواطف عليهم، وتوجه عملهم التقني. لكن بالقدر نفسه، صحيح أن تعليب المأساة الإنسانية، واختزالها، وضخها الناعم والمنظم على نحو يؤطر اتجاهات الرأي العام العالمي، والتحكم في دفق شحنة عواطف المودة لمشاعر عبر العالم، كل ذلك هو من صميم عمل مؤسسات الإعلام العالمية العملاقة، ورديفاتها المحلية، وهو عمل يروم تسليط الأضواء في النهاية تارة على مآسي حرب حلب، وتارة على مآسي اللاجئين السوريين.
إن النغمة الإنسانية المشبعة بالجيوبوليتيك، والمنسجمة مع طموحات طرف معين من أطراف النزاع الدولي والإقليمي والمحلي في سوريا، هي في الحقيقة نغمة تنطلق من مقولة أساسية مفادها أن النظام السوري وحلفاءه يقتلون الشعب السوري، وأن المعارضة المسلحة (في جزء منها على الأقل) تمثل طيفا من أبناء الشعب السوري الذي حصلوا «بطريقة ما» على الأسلحة، والتدريب والمعلومات اللازمة للنهوض الثوري العسكري ضد هذا النظام، وبالتالي فسواء قضى المدنيون نتيجة حصار «المعارضة» لهم، واتخاذهم دروعا بشرية، أو نتيجة قصف النظام وحلفائه لمعاقل المسلحين، فإن النغمة الإنسانية تستهدف فقط النظام وحلفاءه.
في الحقيقة ليس الأمر جديدا، إذ منذ بداية الأزمة، والعنوان الإنساني يقفز إلى واجهة الأحداث في حيز التداول الإعلامي، فقط كلما كانت المعارضة في موقف حرج، أو أدى تشرذمها وضعف أدائها، إلى عدم تمكنها من توفير بيئة حاضنة لمشروعها «الإسلامي» بين السوريين. كما يقفز العنوان إياه إلى الواجهة نفسها كلما كانت ثمة حاجة إلى توظيف سياسي للأزمة السورية في السياقين الأوروبي والأميركي، خصوصا في ما يتعلق بأزمات قضية اللاجئين السوريين وما يرتبط بها من مشاكل ولوجهم وتحملهم من طرف بلدان الاستقبال. وهو ما يعني أن البكائيات التي ترافق المسألة الإنسانية ليست «إنسانية» في جوهرها.
معركة حلب برغم أهميتها، إلا أن إنهاء الوجود المسلح فيها وفي أحيائها الشرقية، ليس إيذانا بنهاية الأزمة السورية، لا سيما على الصعيد العسكري، حيث ما يزال الوجود المسلح جاثما متمركزا في ريف حلب وإدلب وريفها، وأرياف حمص وحماة واللاذقية والقنيطرة ودرعا ودمشق وفي الجنوب السوري. فضلا عن حصار «داعش» لدير الزور ووجوده في الحسكة والرقة وريفيهما. وعلاوة على استيلاء «داعش» على تدمر للمرة الثانية، بعدما توقفت العمليات العسكرية الأميركية، تزامنا مع ارتفاع إيقاع الحسم العسكري الجوي والبري في حلب، وتحقيق الطفرة الكبرى في المعركة، لم يكن في يد المعسكر المتعارك مع النظام السوري وحلفائه سوى أن يهرع إلى الخطاب الإنساني، والالتفات إلى «مأساة السوريين».
وكما أن المواقع العسكرية تكون مهمة «إعلاميا» فقط حينما تكون بأيدي المعارضة، وتفقد أهميتها تلك، حينما تعود إلى أيدي النظام، فإن المأساة الإنسانية بدورها تسلط عليها الأضواء فقط حينما يكون النظام واقعا بين مطرقة ترك المدنيين يموتون تحت الحصار، أو الركون إلى العسكرة بقصف المسلحين ليقضي معهم المدنيون ولو على مضض، لأن العسكريين السوريين في النهاية هم الآخرون شعب سوري. وبالتالي فاستخدام العنوان ذاته في معركة حلب، يجد أسبابه الجوهرية في التناسب العكسي بين تراجع أهمية حلب في الإعلام «الخصم»، بعدما أوشكت المعارضة على خسارتها، وبين تزايد أهمية «الإنسان السوري الحلبي» الذي أصبح فجأة «كائنا يتألم أكثر من غيره»، سواء في باقي المناطق السورية المذكورة الرازحة تحت نير الجماعات الطامحة لبناء مشروع أسطوري سوريالي في سوريا، أو الإنسان المتألم المعذب في باقي أرجاء العالم العربي.
لقد كان سياق المعركة، وضمنه المأساة الإنسانية مشمولا بما أبانت عنه الشهور السابقة، حيث تبلور المقترح الروسي السوري لحلب، الذي عبّد الطريق أمام ولادة التفاهم الروسي الأميركي، القائم على فصل «المعارضة المعتدلة» عن «جبهة النصرة»، وانضمامها إلى المسار السياسي، الذي يشمل ضمنيا أحكام الهدنة القاضية بضرورة تهدئة الجبهات، وتسهيل مرور قوافل الإمداد وغوث المدنيين. لكن فشل هذا المسعى أعاد تفعيل الحل العسكري السوري الروسي، وتدحرجت الانجازات من استرداد معبر الكاستيلو والراموسة وإفشال الهجوم على ضاحية الأسد، ليبدأ الحصار، ثم المعركة الحلبية الكبرى.
من المعلوم أن الرهان العسكري الاستراتيجي للمعارضة على حلب، كان منطلقا من اعتبار رمزيتها كعاصمة ثانية ذات خلفية تاريخية واقتصادية، والسعي إلى جعلها بمثابة «بنغازي سوريا». لكن من الناحية العسكرية الصرفة، فإن حلب كانت توفر بيئة جغرافية وديموغرافية ملائمة للقتال، خصوصا في أحيائها الشرقية، حيث الأزقة الضيقة والاكتظاظ العمراني، الأمر الذي من شأنه أن يمكن من فرملة فرص الطيران والآليات العسكرية. فيما الكثافة السكانية في الأحياء المذكورة تمكن من تسهيل الرسملة العسكرية والإعلامية على الشأن الإنساني، خصوصا حينما يجد الجيش السوري وحلفاؤه إمكانيات للعمل العسكري في البيئة المذكورة، ولا يبقى أمامهم سوى إكراه حل معادلة «المأساة الإنسانية» مقابل الانجاز العسكري.
إن علاقة وجهة النظر الإنسانية لمعركة حلب في التناول الإعلامي بالسياسة، ليست سوى تلك العلاقة التي تجعلها داخلة في حيز التوظيف الجيوبوليتيكي، لا لمأساة سوريي حلب فقط، بل أيضا للأزمة السورية، باعتبارها واحدة من أهم حروب العصر الحديث، التي اصطف على ضفتيها العالم إلى فريقين متبايني المناهج والأساليب والمصالح، ولم يرَ تناول بعض النخب للمسألة الإنسانية فيها سوى «تطبيعا مع المجازر»، التي لا يعني وجودها الفعلي وبشاعتها ولا إنسانيتها أن البديل مثلا يمكن أن يكون هو تبادل أطراف الصراع العسكري الورود والتحايا، لا لكي لا يقضي المدنيون، ولكن كي لا يجد «الإنسانيون جدا» ما يبكون عليه، هذا إن لم يكن المتحيزون ضد نظام الأسد يتمنون وقوع «المجازر» لإدانة النظام إياه.
عبد الفتاح نعوم
السفير

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).