أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | الطلاّب المهاجرون في القرون الوسطى واقع النزاعات داخل الجامعات الأوروبية بقلم د. ايلي مخول
الطلاّب المهاجرون في القرون الوسطى واقع النزاعات داخل الجامعات الأوروبية بقلم د. ايلي مخول
الطلاّب المهاجرون في القرون الوسطى واقع النزاعات داخل الجامعات الأوروبية

الطلاّب المهاجرون في القرون الوسطى واقع النزاعات داخل الجامعات الأوروبية بقلم د. ايلي مخول

عرفت أمم الأرض التبادل الثقافي منذ أقدم العصور. وهو يشمل كل ما يهذّب النفس البشرية من ألوان الفكر والفنون وبالتالي بعض مظاهر التقدّم المادي. وإذا كان طلب العلم ولو في الصين قد مكّن الحضارة العربية من أن تعيش حياة متّصلة منذ ظهورها على مسرح التاريخ، فمما لا شك فيه ان الوحدة الأوروبية مدينة، رغم الحروب الطاحنة بين أممها عبر التاريخ القديم والحديث، لأولئك الروّاد الذين كانوا ينتقلون للتحصيل العلمي في جامعات البلد الآخر في القرون الوسطى، أيضا عندما كان العديد من الطلاب الأوروبيين يتركون عائلاتهم للدراسة في باريس وبولونيه أو مونبِلييه متجاهلين أخطار رحلة طويلة ووجع المنفى والتضحيات المادية.

“أتمنى لجميع الطلاب الذاهبين للدراسة متعة السفر وطيب الإقامة. فهل ثمة من لا يرأف بأولئك الذين هاجروا حبًّا بالعلم، دون ان يوفروا جهودهم معرّضين حياتهم لشتى الأخطار؟ هذا ما قاله الأمبراطور فريدِريك بَرْبروسا عام 1158 في اعلان احتفالي أعطى شتى الضمانات والمنافع والإمتيازات للألمان الذين كانوا في طريقهم لدراسة الحقوق في ايطاليا، وشمل في ما بعد طلاب الغرب جميعًا في العصور الوسطى.

في القرن الثاني عشر ومع نمو المدارس الحضرية برزت في المجتمعات الأوروبية صورة الطالب. كان اغلبهم من رجال الدين ويحظون بامتيازات ضريبية وقانونية. وقد شكل الجميع فئة قائمة بذاتها لها أسلوب عيشها ونمط تكوينها وتطلعاتها المهنية.

في القرن الثالث عشرانتج ازدهار المدارس المدينية جامعات تشد اليها شبابا قادمين من بعيد. أولئك الطلاب الأجانب كانوا مسجلين في معظم الأحيان في “جمعيات” الغاية منها مساعدتهم والإحاطة بهم. بيد ان عدم الثبات والإبعاد بقيا هاجسهم اليومي. وكان الألمان الأكثر عددا بين الطلاب المستعدين لاجتياز اوروبا سعيا وراء التحصيل العلمي.

والحال ان المدارس التي ظهرت في ذلك الوقت وتخصصت في فروع جديدة (الفلسفة واللاهوت في باريس، الحقوق في بولونيه، الطب في سالِرنو ومونبِلييه كانت نادرة)، لذا امتدت شهرتها الى مسافة بعيدة، ولم يتردد شباب موهوبون، مندفعون وطموحون في القيام برحلات طويلة للإستماع الى أساتذة مشهورين يحاضرون فيها.

في القرن الثالث عشر نشأت عن تلك المدارس جامعات أفضل تنظيما حظيت بتقدير البابوات والأمراء وتمتعت بامتيازات كثيرة. وزاد عددها بشكل طفيف: حوالى 15 في نهاية القرن الثالث عشر لا سيما في فرنسا وإيطاليا، 34 عام 1400 و66 عام 1500. فلم تشكل على صعيد الغرب سوى شبكة دقيقة، خاصة اذا حسبنا أن بعضها فقط (بولونيه، باريس، مونبلييه) كانت ذات مكانة دولية مرموقة، بينما اقتصرت الأخريات وبخاصة الأحدث عهدًا على منتسبين إقليميين.

أي أن الطالب في القرون الوسطى لم يأت أبدا من المدينة التي يدرس فيها. وعليه فإن القرية أو البلدة التي ينحدر منها معظم الطلاب لم تكن تبعد عن جامعتهم سوى بضعة ايام سيرا على الأقدام، ما يسهّل تلقيهم الإعانات المالية العائلية. كما ان لغة وعادات المدينة الجامعية لم تفاجئهم. وهكذا كان الإحساس بالغربة جد محدود. لكن آخرين كانوا يأتون من بعيد. ليس ثمة معيار بسيط في العصور الوسطى للتعريف بأولئك “الطلاّب الأجانب”. ومع ذلك يمكننا تبيان مميزات عدة لها تأثيراتها. بادئ ذي بدء البعد الجغرافي الذي جعل من الصعب العودة الدورية الى البلد وإرسال المال والأخبار، الإنتماء الى ممالك أخرى وبالتالي الى نظام سياسي وقانوني متباين؛ أخيرا اختلاف اللغة المحلّية (تلك المتداولة داخل التجمعات) والتقاليد.

لهذه الأسباب جميعا كان الطالب الأجنبي يشعر على الفور بالغربة في المدينة التي جاء يدرس فيها؛ كما كان يُنظر اليه على هذا النحو من قبل اساتذته ورفاقه ومجمل سكان المدينة حيث قرر ان يستقر لبضع سنوات على الأقل.

هذا الشعور بالإختلاف عزّزه واقع مفاده أن الطلاب الأجانب كانوا أقلية في جامعات العصور الوسطى، حيث لم يتجاوز عددهم ربع مجموع الطلاب في جامعة بولونيه في القرن الثالث عشر و10 بالمئة في سواها، اذ ان التوثيق الإحصائي بدأ فقط في القرنين الرابع والخامس عشر. كذلك الأمر في باريس حوالى عام 1400 في زمن لم تشجع حرب المئة سنة والإنفصال الكبير عن الكنيسة الرومانية (من 1378 الى 1417) الحركة الطلابية.

والواقع ان هذه كانت لها جغرافيتها وتسلسل أحداثها تاريخيا. فمن القرن الثاني عشر حتى عصر النهضة شكل الألمان السواد الأعظم من أفواج الطلاب المتجولين، بينما جاء آخرون، رغم أن عددهم كان أقل بكثير، من الأطراف الشمالية والشرقية لأوروبا: اسكتلنديون، اسكندينافيون، بولونيون، هنغاريون، طلاب لم يترددوا في القيام بأسفار طويلة لدراسة اللاهوت في باريس أو الحقوق في ايطاليا. وظلّ تدفق المهاجرين على حاله حتى مع نهاية القرن الرابع عشر عندما بدأت بلادهم في انشاء جدامعاتها الخاصة.

 

كل رابع طالب يختار بولونيه

إن الإنكليز الذين اعتادوا في القرنين الثاني والثالث عشر عبور المانش للدراسة في باريس على وجه الخصوص قد غابوا تقريبا في القرن الرابع عشر مع ازدهار جامعتي أوكسفورد وكامبريدج وتثبيت هوية بلادهم القومية. ولم تختلف الصورة بالنسبة الى الفرنسيين والإسبان والبرتغاليين: فبعد أن كان عدد كبير منهم يذهب لدراسة الحقوق في بولونيه قبل 1300 بات حضورهم نادرا في ما بعد مع ازدهار الجامعات الحقوقية الفرنسية والإسبانية والبرتغالية (أورليان، تولوز، سالامنكه، لشبونة)، وبعد حروب أواخر العصور الوسطى وتنامي المشاعر القومية.

الإيطاليون أيضا كانوا، على ما يبدو، ملازمين البيت اذا صحّ التعبير، باستثناء الأعداد الكبيرة من الدومينيكيين والفرنسيسكانيين من أمثال توما الأكويني وبونافنتورا، الذين كانت ترسلهم رهبانياتهم للدراسة في باريس. فقد توفر لهم كل ما احتاجوا اليه في موضوع مدارس الحقوق (بولونيه) والطب (سالِرنو) ولم تجذبهم الفلسفة واللاهوت الباريسيان.

وبصرف النظر عن بعض الإستثناءات ومنها قرار الامبراطور فريدريك الثاثي في العام 1224 الذي يلزم طلاّب مملكته صقلية بالدراسة في نابولي، كانت سلطات القرون الوسطى تشجع الحركية الطلابية.

أمّا الجامعات التي ضمنت الباباوية أنظمتها وامتيازاتها فكانت مؤسسة مسيحية. ففي كل مكان كان يتم التدريس وفق البرامج عينها تقريبا المستقاة من الينبوع المشترك للثقافة الغربية (أرسطو، الكتاب المقدّس، القانون الروماني). واعتمدت الوسائل التربوية ذاتها ومنحت الشهادات نفسها. وكانت اللاتينية التي أحس الطلاب بضرورة تعلّمها في المدرسة هي لغة التدريس وربما أيضا التواصل المعتاد في الأوساط الجامعية.

ثم ان السلطات الزمنية (العلمانية) كانت توفر للطلاب الحماية في زمن السلم وحتى الحرب فضلا عن الإعفاءات الضريبية والحصانة القضائية، حيث ان الطلاب كانوا تابعين للمحاكم الكنسية.

بالإختصار، ونظريا على الأقل، كان الطلاب الأجانب في القرون الوسطى يجهلون عرقلة الحركية الجامعية التي يتمتع بها زملاؤهم اليوم، رغم التقدم الحديث: تصريح بالإقامة، الطابع الوطني للبرامج والشهادات، التنوع اللغوي. لم يسلّم الطلاب الأجانب في الجامعات الكبرى امرهم الى ذواتهم، اذ توفرت لهم على العموم الإمكانات والطموحات. فلأجل القيام برحلة طويلة والإقامة المديدة في الخارج، حيث تستغرق الدراسة خمس سنوات واكثر، احتاج الأمر الى موارد عائلية أو شخصية، الى علاقات وجرأة ويقين. وهكذا كان الطلاب في ألغالب من أسر ميسورة وحتى نبيلة. كانوا يسافرون في مجموعات يرافقهم خدم أحيانا. ولدى بلوغهم مقصدهم يجدون في الأساتذة والطلاب مواطنين يستقبلونهم ويستضيفونهم في ظروف معينة.

في وقت مبكر تكوّنت مؤسسات نوعية لتقديم يد العون اليهم. سمّيت بادئ الأمر “أمم” طلاّبية  مثبتة لدى رجال القانون في بولونيه منذ أواخر القرن الثاني عشر. وقد نشات بصورة عفوية وأصبح لها قادتها ومجالسها وكنيستها الخاصة وأعيادها.

إنتسب الطلاب عادة الى مدرسة يحاضر فيها أستاذ من بني قومهم. وكان هناك في بولونيه سبع عشرة أمّة أكبرها “الأمّة الجرمانية”.

 

منح للدراسة في باريس

كان ثمة في باريس أربع أمم : فرنسا، النورماندي، بيكاردي وإنكلترا. هذه الأخيرة شكلت وحدها فعلاً أمّة أجنبية حيث كانت تضم ابتداء من القرن الرابع عشر، طلابًا اسكتلنديون، هولنديين وألمان واسكندينافيين. كان التسجيل في جمعية ما إلزاميا، وترك موضوع السكن للطلاب أنفسهم. الميسورون منهم استأجروا بمفردهم أو مع غيرهم غرفة أو طابقًا أو منزلا. وأقام آخرون لدى أستاذ من بني قومهم أو طلبوا مساعدة من مدينتهم الأصلية.

يُذكر أن بعضًا من المعاهد العديدة التي تأسست داخل جامعات القرون الوسطى اتّسم بالطابع القومي، حيث تم تخصيصها لهذه الفئة أو تلك من الطلاب الأجانب. وكان أفخمها معهد الإسبان في بولونيه (1364). وضمّت باريس وحدها سبعة، منها معهد القسطنطينية للاّتين الشرقيين (1204) ومعهد الألمان (1345).

 

الشتائم العنصرية تنفجر مع أدنى خلاف

كان عدم الثبات والخوف من المستقبل ثمن الغربة اليومي. ذلك أن وصول الإعانات المالية المنتظرة كان دائما مشكوكا فيه، ما أجبر الطلاب على الإستلاف أو طلب خفض ومهل التسديد، بما فيها حقوق التسجيل أو الإمتحان. كما ان رسل الأمة أو الطلاب أنفسهم كانوا عرضة للإعتداءات أثناء تنقلهم أو ضحايا رجال الجمرك المبالغين في الإندفاع، ما جعل دائما استعادة الأمتعة أو الأموال المحتجزة بلا مسوّغ قانوني، حتى بدعم من الجامعة، عملية دقيقة. يضاف الى تلك الصعوبات المادية جو ثقيل أحيانا تشهد عليه وثائق عدة. المشكلة الأولى تعلّقت باللغة. صحيح أنه أمكن الإستمرار في التحدث باللاتينية، غير أن الطلاب الأجانب كانوا في الحياة العامة يمارسون في ما بينهم لغتهم المحلية، سيما وأنهم في باريس على سبيل المثال كانوا يتكلمون الفرنسية على نحو سيّئ للغاية، ما أدّى الى عزلهم كمجموعات والغمز من قناتهم من قبل أبسط الحرفيين  والعاملين في المطاعم والمقاهي ورجال الشرطة، وإلى تعزيزفرص سوء التفاهم والصراعات، وبالتالي الى الإحتقار ومنه الى كره الأجانب.

في باريس أيضا، كان أفراد الأمة المسماة “إنكليزية” يشكون من استخفاف الآخرين وتصنيفهم بما لا يليق بهم.

وهناك أمثلة كثيرة أخرى على حوادث مشابهة تضاعفت في أواخر العصر الوسيط مع نمو الأنظمة الملكية القومية ونشوء المشاعر الوطنية التي عززتها الحروب والإنشقاق الكبير. فكانت الدول تفقد أحيانا حيادها التقليدي، وفي العام 1470 أمر الملك لويس الحادي عشر بإبعاد الطلاب التابعين لعدوّه، دوق بورغون، شارل المغامر، من باريس.

بيد أن الشكوى من كره الغرباء لم تقتصر على الطلاّب الأجانب. فلطالما اندلعت بين هؤلاء معارك ونزاعات انتقلت الى داخل الحرم الجامعي. فتتحدث محفوظات الأمة الإنكليزية في باريس عن مجابهات بين الإسكتلنديين والإنكليز، الدانمركيين والفنلنديين، الألمان والكرواتيين.

ومع ذلك لا يصح أن تتكون لدينا صورة قاتمة من تلك الحوادث، المنعزلة في غالب الأحيان، ذلك أن الكثير من النصوص، وعلى سبيل المثال، مراسلات كتلك التي أجراها جان دي جينستاين، أسقف براغ في ما بعد أو يوهان هيلدبرانت، الكاهن السويدي القانوني، وكلاهما طالبان في باريس أواخر العصور الوسطى، تظهر لنا طلاّبًا شديدي الإعجاب والإمتنان للجامعات التي تردّدوا عليها. ولئن عادت غالبيتهم الى بلادهم بعد انتهاء الدراسة، غير ان البعض اختار البقاء والعمل حيث هو. نذكر من أشهرهم في القرن الخامس عشر البروفسور الكبير في الطب مدير معهد مونبلييه جاك روتشيلد القادم من مدينة كولبِرغ الألمانية النائية.

حتى ان مجرّد المشاركة في الأماكن العامة والذكريات الجميلة والإعتزاز بالقيام برحلة الى البعيد، والتعاطي مع رفقاء من أصول مختلفة، والإستماع الى اساتذة مرموقين، والحصول على شهادات ذات اعتبار، كانت كافية للحفاظ على شعبية الدراسة في الخارج. ويبدو ان النصف الثاني من القرن الخامس عشر الذي تميّز بتطور ايجابي عام (ازدهار اقتصادي، هدوء نسبي للحروب والأوبئة) قد أعاد الزخم لتلك الممارسة بأشكال جديدة. تطور غريب حيث بات من السهولة بمكان ايجاد الجامعة المرجوّة في متناول اليد. فنشأ ما سمّي بالأكاديمية المتنقلة peregrinatio academica الحديثة. فلم يعد الأمر مقتصرًا على الذهاب للدراسة في جامعة بعيدة ومرموقة، بل أخذ يتعداه الى التردد تباعًا على جامعات عدة أحيانا لفترة قصيرة طلبًا للتحصيل في بعضها والحصول على شهادات في البعض الآخر (حيث التشدد أقل). وقد جعل ذلك ممكنًا مضاعفة المؤسسات الجديدة.

ولئن حافظت باريس أو مونبلييه على قوة جذب فعلية، فإن ايطاليا أخذت منذ ذلك الحين – ايطاليا عصر النهضة – تفرض نفسها على أنها القطب الرئيس للطلاّب المتجولين. فسحر النزعة الإنسانية والرغبة في زيارة الصروح القديمة والأكاديميات ومتابعة الدروس في شبه الجزيرة أصبحت دوافعهم الجوهرية.

أولئك الطلاب جاؤوا في معظمهم من ألمانيا أو أوروبا الوسطى أو الشمالية، الى انكليز وفرنسيين وإسبان شقوا طريقهم في نهاية القرن الخامس عشر الى جامعات ايطالية هي بالإضافة الى بولونيه، بادوا، بيزا وروما.

وبينما أمكن في القرن الثاني عشر تبرير التوق الى المعرفة والتطلع الى الشهادة العلمية بقبول تحدّي مخاطر الطريق للدراسة في البعيد، جاءت عداوة ابناء الجاليات المختلفة ومرارة الغربة، نهاية القرن الخامس عشر، تضيف الى تلك الدوافع الفكرية سحر الاكتشاف وحب الاطلاع والتعاطف مع الأشخاص الذين سبق أن تعارفوا. فأضحى الطالب الأجنبي في القرون الوسطى أحد وجوه الأنسية المحدثة.

د. ايلي مخول

عن ucip_Admin