أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | «الليالي البيضاء»: فلسفة الحُب المرِحة
«الليالي البيضاء»: فلسفة الحُب المرِحة
«الليالي البيضاء»: فلسفة الحُب المرِحة

«الليالي البيضاء»: فلسفة الحُب المرِحة

يُعالج الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي موضوع الحب في روايته العاطفية «الليالي البيضاء»، (المركز الثقافي العربي 2016)، بناءً على فلسفة مرحة، بعيداً من كل الإلتواءات في التعبير والرومانسيات البكائية التي تنضحُ بالحزن والتحسّر على زمن غابر ومشاعر حب فائضة، لم تبقَ منها سوى أحلام شاحبة.هذا لا يعني بأنَّ صاحب «الشياطين» ينقطعُ تماماً عن تقاليد الأُسلوب الرومانسي، ويضرِبُ بعاطفة الحُب عرض الحائط، بل يُفتّشُ عمّا هو مُضمر في المشاعر الحميمية من مصادر السعادة، وما يحتاجُ إليه الإنسان من إقامة التواصل مع الآخر، وضرورة الخروج من حالة الإنغلاق على الذات، ومُشاهدة تأثير إنفعالاته الداخلية في ذهنية المُقابل.

الوحشة

نجد تفسير ذلك في رواية «الليالي البيضاء»، من خلال الراوي الذي يخاطبُ المتلقّي مباشرةً، مستعيداً وقائع أربع ليالِ، ولايكون مهيمناً على خيط السرد بل يتخلّى في بعض المقاطع عن وظيفته تارِكاً زمام الروي لصديقته ناستينكا التي بلغت السابعة عشرة من عمرها للتو، ومضى على غياب حبيبها عامٌ، وهي بدورها تسردُ قصةَ حياتها لمَن تلتقي به فجأة بينما هى واقفة في المكان الذي تنزّهت فيه مع حبيبها قبل أن يسافر إلى موسكو، ولا تقف حياة ناستينكا عند هذا الحدّ وهذا لا يكون إلّا حلقة ممّا ترويه لصديقها الذي لا يُذكَر له إسمُ.

تمرّ ثماني سنوات على وجود بطل الراوية في مدينة بطرسبورغ دون أن يفلحَ في بناء علاقات الصداقة، يمضي أوقاته في متابعة سير حياة المدينة قبل أن يأوي إلى ركنه الذي تعشّشت فيه العنكبوت، ولا يتبادلُ التحية إلّا مع العجوز الذي يمسكُ بعصا ذات مقبض ذهبي، إذ يفسّر موقف العجوز بأنَّ الأخير أيضاً ربما يعاني من الكآبة والوحدة لذلك يومئ إليه ويحيّيه برفع القبعة، كأنَّ بدوستويفكي يُحيلنا إلى فالتر بنيامين الذي يقول بأنَّ «الغريب هو نسيب الغريب».

ويجمع مؤلّف «مذكرات قبو» بين جمال المرأة والطبيعة، فتتشكل لدى الراوي إنطباعات متناقضة حيال فتاة قد لا تسترعي إنتباهك، ولكن في لحظة ما فجأةً تغدو جميلة تَمْلِكُ قلبه، هكذا أنَّ الوحدة لا تمنع هذا الشاب من إدراك جماليات مناخ المدينةِ التي يجوب في أرجائها مُنفرداً، بل يُفْهَمُ من سياق تعبيراته أنّ سحر الطبيعة وجمال المرأة لا ينفصلان.

وبهذه الخلفيّة التي تتبلور عن أحد ركنَي القصة التي يُنهضُ عليها هيكلُ العمل، يكتفي المؤلف بإسترسال السرد في قالب أقرب إلى المونولوج ويتحوّل إلى مفصل جديد في بنية الرواية.

علاقة مشروطة

تدخلُ حياة البطل مرحلة جديدة، حين تجمعه علاقة صداقة بناستينكا بعد إنقاذها من سكّير. الشاب ليست له دراية في التعامل مع الجنس الآخر وهذا ما تشعرُ به الفتاةُ التي لا تخطئ في قراءة علامات الإرتباك على محيّاه. يتواعدُ الإثنان على اللقاء في كل ليلة غير أنّ أمرَ اللقاء مشروط بأن لا يقعَ الشابُ في حُبِ ناستينكا، ويبدأُ كل واحد منهما بمكاشفة الآخر ما يجولُ في خاطره.

الشابُ شخص حالم، وما يتمنّاه لا يعدو كونه جملةً من تخيّلات مراهقة، فهو يريد أن يتقمّص شخصية شاعر مجهول، ولا يقتنع بدور أقل من دور مشاهير الثورة الفرنسية، ويدسُ المؤلف في هذا الإطار أسماء بعض وقائع وشخصيات تاريخية، مثل هوفمان، مذبحة سان بارتيليمي، كليوباترا، دانتون، معركة بيريزينا.

وبعض الجمل التي يتفوّه بها الشاب تكشفُ عن جانب عبثي من شخصيّته، وأنه ينقصه الحب ولو تحقّق كل ما يحلمُ به لا يعوّض غياب الحب.

مقلب آخر من القصة ترويه ناستينكا عن حياتها مع جدتها العجوز وهي ضريرة تتعهّد برعاية الفتاة بعدما غيَّب الموتُ والديها وتعلّمها اللغة الفرنسية، (جدير بالإشارة أنّ الثقافة الفرنسية كانت نموجاً أنذاك لذا يشير الأدباء الروس كثيراً إلى فرنسا في متون رواياتهم). وفي منزل جدّتها تنشأ علاقة حبّ بينها وبين نزيل، الذي لا يلبث أن يرحل بحجّة أنّ ظروفَه لا تسمح له بالزواج، واعداً إياها بالعودة.

تمضي الأيام ولا يظهر الحبيبُ ولا يردّ على رسائلها، ما يدفع بناستينكا أن تفكّر في الإرتباط بصديقها، وتدعوه إلى أن يقيمَ في منزل الجدّة. وفي الليلة الأخيرة حين تمشي الفتاة مع صديقها الجديد، تسمعُ صوتاً يناديها فإذا بها تجدُ حبيبها السابق، هنا تتكثّفُ حركة درامية وتتبيّن خطوط الحبكة، والثيمة الأساسية وهي أنّ الحب حالة لا تُفسَّر ولا بديل لمَن تُحبّه.

بالمقابل إنّ سلوك الراوي وموقفه الخالي من الإحن والندب على الحظ بعد عودة ناستينكا إلى حبيبها يبرزُ ضرورة المرونة مع أطوار لا يمكن تحليلها وفقاً للمنطق المتعارَف عليه.

هذا العمل لدوستويفسكي موزَّع على أربعة فصول وأسلوبه يتميّز بالخفّة والسلاسة في التعبير.
كه يلان محمد
الجمهورية

عن ucip_Admin