أختر اللغة
الرئيسية | أخبار الكنيسة | المارونية… نسك ورسالة بقلم المطران منير خير الله
المارونية… نسك ورسالة بقلم المطران منير خير الله

المارونية… نسك ورسالة بقلم المطران منير خير الله

بعدما احتفلنا معاً في لبنان بميلاد الرجاء، ها نحن نحتفل اليوم بعيد أبينا مار مارون في أجواء رجاء وتفاؤل على الرغم من استمرار الظروف الإجتماعية والإقتصادية والسياسية الدقيقة في لبنان وفي منطقتنا الشرق أوسطية.

وها هو صاحب الغبطة والنيافة مار بشارة بطرس الراعي الكلي الطوبى يعلن عن إطلاق «سنة الشهادة والشهداء في الكنيسة المارونية التي تبدأ في عيد أبينا القديس مارون في 9 شباط 2017، وتُختم في عيد أبينا البطريرك الأول القديس يوحنا مارون في 2 آذار 2018».

إنها مناسبة فريدة لتجديد التزامنا بالشهادة للمسيح في كلّ الظروف، ودعوة للعودة إلى جذورنا الروحانية ومبادئ التأسيس الأول مع مار مارون والتأسيس الثاني مع مار يوحنا مارون ومسيرة التأسيس الثالث التي تُوّجَت مع البطريرك الحويك.

التأسيس الأول كان إذاً مع مار مارون (350-410) الذي كان ناسكاً وكاهناً. كلّ ما نعرف عنه أنه تجرّد عن كلّ شيء في هذه الدنيا وراح يعيش حياةً نسكية على قمم جبال قورش- قرب أنطاكية، وفي العراء ويقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي عاش عليها. فتقاطر إليه الناس وتتلمذ الكثيرون على يده.

وراح تلاميذه يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضعها. ومنهم مَن بقوا في سوريا وجمَعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرُها دير مار مارون على ضفاف العاصي، ومنهم مَن هجروا إلى جبال لبنان، فسكنوا جرود جبيل والبترون والجبّة، من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الفينيقيين ودعوتهم إلى الإيمان بالإله الواحد وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار. وتجمّع حولهم الناس حتى دُعوا بـ«شعب مارون» أو بـ«بيت مارون».

التأسيس الثاني كان مع يوحنا مارون الذي جمع أبناء مارون وأسّس معهم، في أواخر القرن السابع، البطريركية المارونية ونظمها في كنيسة قائمة بذاتها ضمن كنيسة أنطاكيه.

واتّبع الموارنة معه ومن بعده مقوّمات الروحانية التي تركها لهم الآباء المؤسسون والتي حاولت تطبيق الإنجيل بصرامة في حياة زهد ونسك وصلاة وتبشير. وتميّزت تلك الروحانية بحياة متكاملة جمعت في الشهادة للمسيح بين النسك والرسالة.

فعاشوا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على حريّتهم والشهادة لإيمانهم بالمسيح. وعملوا في أرضهم القاحلة والصخرية فحوّلوها إلى جنّات وتمسّكوا بها وأحبّوها لأنهم تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم.

كانوا دوماً أقلّية صغيرة في وسط الامبراطوريات والسلطنات على أنواعها، من البيزنطيين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى الصليبيين إلى المماليك وصولاً إلى العثمانيين الذين حكموا الشرق وأكثر الغرب لأربعمئة سنة.

لم يطلبوا لأنفسهم من العالم السلطان ولم تكن بيدهم سلطة؛ لأنهم «لم يأتوا إلى جبل لبنان لاجئين ولا فاتحين، بل أتوه نسّاكاً ومرسَلين وجعلوا منه معقلاً للحريات يلجأ إليه كلّ مضطهد في الشرق»، كما يقول الأب يواكيم مبارك.

صمدوا بفضل إيمانهم وتكوكبهم حول البطريرك، رئيسهم وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها، وتعلّقهم بأرضهم وبالقيم التي تربّوا عليها. فكانوا حَمَلة رسالة مطبوعة بالشهادة النسكية والاستعداد للاستشهاد دفاعاً عن إيمانهم وحريتهم.

أما التأسيس الثالث فبدأ مع الموارنة الذين عملوا مع أخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتَين المعنية والشهابية؛ وكانوا روّاد الاستشراق في الغرب والاستغراب في الشرق بفضل تلامذة المدرسة المارونية في روما، ورواد النهضة العربية بفضل تلامذة مدرسة عين ورقة.

وراحت هذه الذاتية تتبلور فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً في بداية القرن العشرين حيث تجرّأ اللبنانيون، مسيحيون ومسلمون، على خوض التجربة الإجتماعية والسياسية الفريدة من نوعها في العالم، أي الوطن اللبناني، الوطن الذي يَجمع بين الأديان والطوائف والجماعات المتعددة في الحرية والمساواة والاحترام المتبادل.

فحصلوا بعد الحرب العالمية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير بقيادة البطريرك الياس الحويك وحقّقوا بذلك إنجازاً تاريخياً نادراً في تاريخ العلاقات بين الشعوب والأديان.

في حصيلة هذه المسيرة الطويلة، نستخلص أولاً «أنّ المارونية هي في أساسها حركة روحية نسكية غير مرتبطة بأرض ولا بعرق ولا بقومية ولا بلغة. فهي منذ البدء فلسفة حياة العراء، إذ لا بيت لصاحبها إلّا الهواء ولا سقف له إلّا السماء، كما يقول الأب ميشال الحايك. كلّ ذلك لأنّ «مؤسس المارونية هو راهب قديس. ففي القداسة بدايتها، وفي القداسة ضمانتها، وفي القداسة استمراريتها، ومن دون قداسة نهايتها».

ونستخلص ثانياً أنّ أبناء مارون ساهموا مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين في تأسيس لبنان وطن الحريات، ولكنهم لم يحتفظوا به لهم وحدهم ولم يريدوه يوماً وطناً قومياً للموارنة أو للمسيحيين.

ونستخلص ثالثاً أن أبناء مارون كانوا رواد الثقافة والحداثة في محيطهم العربي «وشكّلوا حلقة وصل واتصال وعمقاً ثقافياً أصيلاً في العروبة ومتقدماً في العصرنة والحداثة».

أما اليوم، وفيما نحن أبناء مارون، وأخوتنا اللبنانيون معنا، نعيّد لأبينا الروحي نقف أمام الله وأمام ذاتنا ونتساءل: أين نحن من روحانيّتنا النسكية ودعوتنا إلى القداسة؟ وأين نحن من التزاماتنا التاريخية على المستوى السياسي والثقافي والوطني؟

إننا نجدّد اليوم التزامنا بالدعوة التي دعينا إليها منذ البدء، أي إلى القداسة، على الرغم من ضعفنا وأخطائنا، وبتبنّي مقومّات روحانيتنا النسكية بالتجرّد عن كلّ ملذات الدنيا وإغراءاتها وبنقلها من عمق وادي قنوبين إلى قلب بيروت وباريس ونيويورك ومونتريال وساو باولو وسيدني.

وإننا نجدّد اليوم، كأبناء مارون وككنيسة مارونية وعلى رأسها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، انتماءنا إلى كنيستنا الانطاكية وإلى محيطنا الطبيعي في العالمين العربي والإسلامي، ونجدّد ولاءنا للبنان «وطناً سيداً حرّاً مستقلاً ونهائياً لجميع أبنائه وعلى كامل أرضه» (دستور الطائف 1989- المجمع البطريركي الماروني، النص 19، العدد 29).

ونؤكد أخيراً أننا ننشد الحرّية لنا ولغيرنا من الشعوب ضمن احترام التعدّدية الدينية والثقافية والحضارية التي تميّزنا، ونجدّد انفتاحنا على الغرب وثقافته واتّحادنا مع الكنيسة الرومانية الممثلة بالكرسي البطرسي وبالجالس عليه اليوم قداسة البابا فرنسيس.
المطران منير خير الله
الجمهورية

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).