«لا يمكنني أن أعدد كم مرة تعرّضت فيها للتحرّش من قبل مسؤولين سياسيين، وأفراد في الشرطة اللبنانية وقوى الأمن والقوّات المسلحة. ولكن لمن أشتكي؟ فالجهات التي يفترض بها توفير الحماية من هذا الأذى هي التي تقوم به وتضمن استدامته. وإذا حاولت التقدم بشكوى، إما يتجاهلونك أو يهزأون بكِ، وحتى يقولون إنكِ أنتِ من تسبّبتِ بذلك». بتلك الكلمات تلخّص إحدى الصحافيات تجربتها في شأن التحرش الجنسي في مجال الإعلام في لبنان.
تعتبر نسبة 73 في المئة من الصحافيات اللبنانيّات أن التمييز الجنسي مشكلة، ويؤثر سلباً على مستقبلهنّ المهني. في حين يؤكّد نصفهنّ أنهنّ واجهن نوعاً من أنواع التحرش الجنسي على الأقلّ مرة واحدة في مسيرتهن المهنية، بينما لا تعتمد المؤسسات الإعلامية، وفق أغلبية الصحافيات (72 في المئة)، أي سياسة ضد التحرش الجنسي.
الأرقام السابقة وردت ضمن دراسة علمية أجراها الباحثون جاد ملكي، وسارة ملاط، وماي فرح، وروان عنان، في قسم الدراسات الإعلامية في «الجامعة الأميركية في بيروت» بعنوان «مواجهة التمييز والتحرّش الجنسي المتفشي في مجال العمل الإعلامي في لبنان»، ونشرت في المجلة البحثية «الاتصال والتنمية» (العدد 11).
تهديد وتحرّش لفظي وجسدي
شملت الدراسة 250 صحافية من ستين مؤسسة إعلاميّة محليّة ودوليّة عاملة في لبنان. وارتكزت الدراسة على إجراء استطلاع ومقابلات معمّقة مع الصحافيات. لا يتخطّى سن معظم المشاركات في الدراسة 34 عاماً، وهنّ عازبات (71 في المئة)، ومن دون أطفال (74 في المئة من نسبة المتزوّجات بينهن)، وعملت غالبيتهن لفترة لا تتجاوز العشر سنوات في مجال صناعة الأخبار (67 في المئة). تحمل نسبة 92 في المئة من المشاركات في الدراسة شهادة جامعية، و55 في المئة من تلك الشهادات دراسات عليا. تعمل 60 في المئة من النساء المستطلعات كمراسلات، و32 في المئة كمحرّرات، و15 في المئة كمنتجات، و11 في المئة كمحرّرات مواقع إلكترونية، و6 في المئة في الإدارة المتوسطة، و5 في المئة في الإدارة العليا، وواحد في المئة كأعضاء في مجالس الإدارة.
حدّدت الدراسة خمسة أنواع من التحرش الجنسي: اللفظي، الإيمائي (التحديق، الغمز، والحركات الجسدية)، التهديدي (عرض مكافآت أو تهديد لقاء خدمات جنسيّة)، البيئي (الصور غير المحتشمة والخلاعية)، الجسدي (اللمس والاتصال الجسدي). وأظهرت نتائج الدراسة أنَّ التحرّش الجنسي اللّفظي أكثر أنواع التحرش انتشاراً محليّاً (عانت نسبة 60 في المئة من المشاركات في الدراسة منه مرّة واحدة على الأقل)، يليه التحرّش الإيمائي (بنسبة 48 في المئة)، والتحرّش الجسدي (26 في المئة)، والتهديدي (10 في المئة)، والبيئي (10 في المئة).
لا حماية قانونيّة
يلحظ الباحثون معدّو الدراسة غياب القوانين المتعلقة في هذا الشأن، إذ لا يجرّم قانون العقوبات اللبناني وقانون العمل اللبناني، وفق معدي الدراسة، التحرّش أو التمييز الجنسي. ولا تلحظ مدونة السلوك المهنية لنقابة الصحافة أي أحكام عن المساواة بين الجنسين، أو أي شروط أو أنظمة بشأن التحرّش الجنسي، وتدمج التمييز والتحرّش الجنسي بشكل غامض بفئات التمييز عامة.
تذكر الدراسة أن أجهزة الدولة والأمن المفترض بها حماية المواطنين تشكل جزءاً من المشكلة. إذ تنقل أغلبية النساء اللواتي تعرّضن للتحرش الجنسي أن السياسيين والعسكريين ورجال الأمن، شكّلوا مصدراً أساسياً لتلك الانتهاكات.
إقصاء عن القرار
من جهة أخرى تعرض الدراسة البيئة التمييزية المنتشرة في الإعلام اللبناني. ففي حين تشكل النساء ثلثي طلاب الصحافة والتواصل في الجامعات، غير أنهنّ لا يشكلن أكثر من ثلث القوى العاملة في قطاع صناعة الأخبار. ولا تتجاوز نسبة النساء في الإدارة العليا 22 في المئة، وفي مناصب الحوكمة (مثلاً عضو في مجلس الإدارة) نسبة 15 في المئة.
كما تغيب مشاركة المرأة، في أغلب الحالات، عن وضع سياسة المؤسسة الإعلاميّة وصناعة القرارات الإداريّة، على الرغم من تأثّرها المباشر بتلك السياسات والقرارات.
تشير الدراسة إلى عوائق عدة تمنع المرأة من دخول مجال الصحافة والإعلام وتعيقها عن الاستمرار في هذا المجال ومنها: التمييز والتحرّش الجنسي، غياب القوانين ومدونات السلوك المهني، الثقافة الاجتماعية الذكوريّة. إذ تعتبر نسبة 48 في المئة من المشاركات في الدراسة أنهنّ لو كنّ رجالاً، لكنّ حظين بفرص أكبر في العمل وحقّقن عائداً مالياً أكبر.
لبنان ليس استثناء
لا يشكل عدم المساواة بين الجنسين في الوظائف الإعلامية استثناءً في لبنان بل يمكن تعميم هذه الحالة عالمياً. ويركّز الإعلام العالمي واللبناني على أهمية شكل المرأة ومظهرها خصوصاً على الشاشة. فتواجه المذيعات ضغوطاً تفرضها المؤسسات الإعلامية في شأن المعايير الجمالية والجسدية والعمريّة، بينما لا يواجه الرجل الإعلامي الضغوط عينها، إذ تقدر المؤسسة الإعلامية خبرته وكفاءته أكثر من عمره ووزنه وطوله.
توصي دراسة «مواجهة التمييز والتحرّش الجنسي المتفشي في مجال العمل الإعلامي في لبنان»، بضرورة إعداد مشاريع قانونية تجرّم التمييز والتحرش الجنسي وبأهميّة تحضير الطلاب والطالبات في الجامعات لواقع المهـــنة من خلال إدراج التربية الإعلامية النقديةّ والدراسات الجنسانية في المنهج الدراسي، وبتنفيذ سياسات داخل المؤسسات تحدّ من التمييز والتحرش الجنسي وتوفّر بيئة عمل مشجِّعة للمرأة.