أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | الملك والوزير في لعبة الشطرنج
الملك والوزير في لعبة الشطرنج
الملك والوزير في لعبة الشطرنج

الملك والوزير في لعبة الشطرنج

ما زال الغموض يحيط بنشوء لعبة الشطرنج. أحدث المصادر يُرجعه إلى القرن السادس للميلاد ويشير إلى الهند مهدا له. وهناك روايات كثيرة حول ذلك.

تمهيد: أسماء بيادق لعبة الشطرنج باللغة العربية: الملك (شاه)، الوزير (ملكة)، القلعة (رخ أو طابية)، الفيل (أسقف باللغة الإنكليزية) الحصان (فرس)، الجندي (بيدق أو العسكري).

أساطير حول أصل لعبة الشطرنج

تزعَم أشهر الروايات أن مبتكرها طلب أجرًا له كمية من حبوب القمح حسب مبدأ المضاعفة: حبّة لأول خانة، حبّتان للثانية، 4 للثالثة، 8 للرابعة، 16 للخامسة وهكذا. إلاّ أن الدهشة من ذلك التواضع الشديد تحوّلت ارتفاعا محيّرا حين تبيّن أن الخانة الرابعة والستين تتطلّب مقدارًا هائلاً من الحبوب يستحيل توافرها.

قبل ألف عام ونيف أورد الشاعر الفارسيّ الكبير، أبو قاسم الفردوسي، في مؤلّفه “الشاهنامه” أو كتاب الملوك روايتين عن ابتكار الشطرنج تقول إحداهما ان ابن ملك هندي حاول بواسطة بيادق (قِطَع) الشطرنج إقناع والدته بأن شقيقه لم يُقتل غِيلة، بل سقط في معركة. وتفيد الثانية أن مستشار الملك الفارسي كسرى الأول قام بتقصّي قواعد اللعبة التي ابتدعها الحكيم الهندي فتبيّن له تشابه اللعبتين.

بطبيعة الحال، ليست تلك المعلومات وثيقة يعوّل عليها حول قيام الشطرنج. والأرجح أنه لم يكن هناك مبتكر بعينه. ذلك أن الشطرنج يجمع بين ألعاب مختلفة. ويمكن إثبات عدّة مراحل: الواضح أنها كانت تضمّ في البداية أربعة لاعبين. لكن لا بدّ من القول ان الخرافات جاءت بمعلومات مهمّة. وبصرف النظر عن أن المسائل الرياضية قد شغلت مخيّلة الناس في قديم الزمان فإن ذلك يصح من ناحيتين: في بلاد فارس أيام الفردوسي لم يكن أحد يشكّ في أن لعبة الشطرنج أُخذت عن الهنود ثم انها كانت تُعتبر في الأساس صورة عن الحرب.

في أحد المصادر الهندية الذي يعود إلى القرن السابع يجري تمجيد عشق أحد الملوك للسلام. ففي عهده لم يقع خِصام سوى بين النحل المتهافت على جمع العسل ولم تُقطع رِجل سوى الّرّجَل من الشَّعر، ولم يبق على جيوش (تشاتورنغا) سوى على لوحة خانات بقياس 8×8 (أشتابادا). ولا غرو في أن لعبة الشطرنج هي المقصودة. أمّا تسمية “تشاتورنغا” فلا تزال حيّة في كلمة تشاطرنج الفارسيّة وفي شطرنج العربية، وترجمتها الحرفية تعني الرباعي. وهذا بالذات ما أطلق على الجيش الهندي الذي كان مكوّنًا من مشاة وخيّالة وعربات قتالية وأفيال حربية. مع مرور الزمن، ومن بلد لآخر، تغيّرت قواعد اللعبة وكذلك أسماء البيادق. إلاّ أن الكثير بقي على حاله أو استند مباشرة الى الأصل الهنديّ. وهكذا حافظت اللعبة على ال64 خانة، علمًا بأن مبدأ ال 8 × 8 مردّه أيضًا الى العديد من المساقط الأفقية للمعابد الهندية. كما ان الحصان ما زال معتمدًا منذ 1400 سنة. أمّا الفيل الذي لم يكن معروفًا في أوروبا في العصور الوسطى فقد استعيض عنه بالسّاعي (حامل الأسرار وناقل الأخبار إلى مسافات بعيدة). وسنتحدث في ما بعد عن التحوّلات الفريدة التي طرأت على أسماء البيادق الأخرى وأسبابها.

 

لماذا وجب إنذار الملك؟

ليس الشطرنج صورة عن الحرب فحسب، بل أيضا انعكاسًا لعلاقات اجتماعية. ولقد كان بديهيًّا أن يُسمّى الحجر الرئيس حسب ممثّل أعلى سلطة رسمية. كان الملك يُعرف في بلاد فارس بالشاه. من هنا تسمية تلك اللعبة في اللغة الألمانية Schach.

والحال أن الملك في الهند القديمة وبلاد فارس تمتع على الدوام بمهابة دينية. فقد كان مصُونًا ومقدّسا بالنسبة الى الشعب. لذا لم يكن جائزًا القضاء عليه في الشطرنج أيضا أسوة بالبيادق الأخرى. فمن كان يهاجمه ويهدّده بالقتل وجب عليه أن يقول “شاه” أي ما معناه “كش ملك”! وإذا كان تهديده واقعًا لا محالة يكون الملك “مات”، عندها تنتهي اللعبة. وإذً كان التقليد يقضي إما بتهديد الملك بالقتل أو أخذه أسيرًا وجب دائما الحفاظ على مسافة تفصل بين الملكين بحيث يستحيل تعرّضُهما للخطر المباشر المتبادل بينهما.

في القرن التاسع عشر انتهى الاحترام المطلق الذي كان يحظى به الملك. في ذلك الوقت الذي أخذت تهتزّ العروش بشكل متزايد، اتفق اللاّعبون على عدم التقيّد بإنذار الملك. أصبح حقا، يحسب أصول ما سمّيَّ بالشطرنج الخاطف، الإطاحة بالملك متى أغفل اللاعب ذلك. فتعتبر اللعبة منتهية فور موته أو سحبه من اللوحة. وتكون متعادلة حين يضطرّ الملك غير المهدَّد إلى التحرّك رمزيًّا نحو الموت في خانة مهاجَمة. هذا الموقف المحرج هو عادة آخر فرصة للإنقاذ في لعبة شطرنج خاسرة، لأنه لم يكن يجوز لأحد في الهند القديمة وبلاد فارس وفي القرون الوسطى أن يمدّ يدَه على الملك.[1]

 لماذا سمّي أقوى بيدق، الملكة؟

لمّا كانت لعبة الشطرنج في الأصل صورة عن الحرب وتعكس علاقات اجتماعية، فمن الغرابة بالطبع أن تكون الملكة أقوى بيدق. وهذا إن دلّ على شيء فعلى الشهامة المرحة ويذكّر بشعر الغزل الفروسي. على ان تاريخ الشطرنج يعلّمنا شيئا آخر. ففي الهند – مهد الشطرنج المرجّح – لم يكن بيدق الملكة معروفًا إطلاقا. فالملك لم يكن أقوى بيادق الشطرنج فحسب، بل أيضا أكثرها سطوة. وحدَه الحصان كان قادرًا على بلوغ ثماني خانات، إنّما بعيدا عن جوار الملك. في ما بعد أُدخل على لعبة الشطرنج بيدقٌ احتلّ مكانه بجانب الملك. وقد جاء ذلك بمثابة ضرورة أملاها مبدأ الثماني خانات، عندما كانت اللعبة تجري سِجالاً بين طرفين، إذ كان هناك عربتان قتاليتان (قلعتان)، حصانان، فيلان (ساعيان) وملك واحد.

أطلق الفرس على البيدق الجديد اسم الفرزان الشبيه بكلمة وزير ومعناها مستشار. هو لم يكن يفوق الملك قدرة وأهمية. ويمكن ضربُه أسوة بسائر البيادق، كما أُقرّ له فقط بنصف قوّة الملك القتالية. كان الوزير يتحرك ويضرب بشكل قُطريّ. وحين انتقلت لعبة الشطرنج بواسطة العرب الى غرب أوروبا كان اسم ذلك البيدق غير معروف على الإطلاق. صحيح أن جوار الملك كان معَزّزا أيضا بمستشار، إلاّ أنه لم يكن بالمستوى العرفي للوزير الشرقي بحال من الأحوال. لذا سُمّي البيدق بالملكة.

لقد أشرنا آنفا الى أن الفيل كبيدق في الشطرنج شهد تغييرا في اسمه، حيث أن ذلك الحيوان كان مجهولا في أوروبا. لذا تحوّل هذا البيدق – وفقا للحياة في البلاط – الى حَبر، فسمّي بالأسقف. أمّا الفرنسيّون غير الهيّابين فكانوا يصفونه بالمجنون. بعد ذلك بزمن طويل دخل اسمُ “الساعي” قاموس اللغة الألمانية. كذلك فإن العربة القتالية الهندية لم تكن معروفة لدى جيش الخَيّالة الأوروبي. وبما أن الأمر كان يتعلّق ببناء حصين فقد ضُمّت القلعة الى مفردات اللغة. قبل ذلك كانت البيادق في مربعات لوحة الشطرنج تُعرف بالرُّخ Roch، جمعُها رِخاخ ورِخَخة، وهي كلمة فارسية – عربية استمرت حيّة في مصطلح Rochade (حركة تبديل واحدة في موقعَي الملك والقلعة فقط وفقا لأصول معيّنة). المهم في الموضوع أن القلعة في الروسية تعني “لاديا”، أي سفينة. وحيث أن لعبة الشطرنج انتقلت الى روسيا القديمة عن طريق بلاد فارس مباشرة، فقد أُطلق على تلك العربة القتالية العجيبة اسم واسطة النقل الأكثر رواجا في التجارة الروسية – الفارسية “لاديا”.

على كل حال لم تكن العقبة الرئيسة أمام انتشار لعبة الشطرنج كامنة في أسماء البيادق، إنما في مِشية الملكة والأسقف (الوزير). فهذا الأخير كان يتحرك بشكل قطري كالملكة، لكن قفزًا على غرار الفيل. إن من يكلّف نفسه مشقّة ممارسة الشطرنج حسب تلك القوانين سرعان ما سيلاحظ أن كل شيء يسير في غاية البطء وأن اللعبة، رغم التفوّق الكبير، لا يمكن حسمُها، لأن الملكتين فقط تستطيعان بلوغ الخانات التي لا تحمل لون خانتهما الأصلية ولأن الأسقفين لا يمكنهما سوى احتلال 8 خانات من اللوحة لكل منهما. لم يستوعب الناس في أوروبا هذا الرقم باعتباره رمزا للاّنهاية وعددا مقدّسا لدى الهنود. لذا سعوا الى لعبة أسرع. إذ ان الشطرنج في العصر الوسيط كان يمارَس في الفنادق والمطاعم كمقامرة.

أمّا الأسلوب العربي بمباشرة اللعبة، لا انطلاقا من موقع البيادق الأصلي، بل من مواقع محدّدة بعد انتهاء الافتتاح، فلم يكن سوى علاج مؤقّت لزم إتقانُه. وفي الوقت الذي أخذ البحّارة المِقدامون يتأهبون لمغادرة الطرق الساحلية التقليدية وبدأ عصرُ الاكتشافات، تغيّرت أيضا أصول لعبة الشطرنج. فكما السفن في المحيطات، بات يتحرّك، الملكة والأسقف، على مجمل اللوحة حسب النهج الحالي. بيد أن ذلك أحدث انقلابا في فكرة اللعب. فوُضع الملك الجبّار بين نارين وبات لِزامًا عليه، بفعل تبديل الموقع (Rochade) البحث عن الأمان وراء سدّ فلاّحيه المنيع. أمّا الملكة فسيطرت على ال 64 خانة. وما زال الناس محتارين في أمر إعطائها، لقبًا جديدا، وتسميتها بالوزير في بلدان كثيرة.

بعضُ الباحثين في الشطرنج يعتبرون هذا إجلالا لعذراء أورليان Notre Dame d’Orléans التي قادت ملك فرنسا الى النصر على الإنكليز. إلاّ أن ذلك يقابله إحراق جان دارك على كومة حطب بتهمة الهرطقة. وباعتقادنا أن المسألة مختلفة تماما. فإذا كان للملك من مستشار فائق النفوذ فلا يمكن أن يكون وقتذاك سوى العذراء مريم، ملكة الكاثوليك جميعا التي، تكريما لها، أطلق اسمُها على العديد من الكاتدرائيات وعلى رأسها “نوتردام” في باريس. وهكذا يتأكّد مجدّدا أن لعبة الشطرنج ليست ملكة كل الألعاب فحسب، بل انها أُدخلت بطريقة مميّزة تماما شيئاً من تاريخ البشرية وثقافاتها على رموزها وقواعدها.

 

[1]  [ولهذا أيضا صداه في الكتاب المقدس حيث، منذ بداية عهد الملكية مع شاول، اضطر الأخير لقتل نفسه بسيفه الخاص كي لا ن يقال إنه قتل (1صم 31، 4) فتسقط هالة الملوكية، مع التمييز هنا بأن الملك هو أيضا مسيح الرب (2صم 1، 16)]

إعداد وتقديم ايلي مخول

 

عن ucip_Admin