أختر اللغة
الرئيسية | أخبار الكنيسة | بتوليّة مريم .. “وتجسّد من مريم العذراء …”
بتوليّة مريم .. “وتجسّد من مريم العذراء …”
بشارة العذراء مريم

بتوليّة مريم .. “وتجسّد من مريم العذراء …”

هل لهذا القول من قانون الإيمان أساسٌ كتابيّ ؟!

ليست الغاية من الأسئلة هذه التشكيك في العقيدة المسيحيّة ، بل إنها تساؤلات واقعيّة وجريئة لتحريك الإيمان والعقل في البحث الدائم والإستمرارية في الإيمان ؛ فلا يجب أن يتوقف المؤمن الحقيقيّ في طرح تساؤلات لذاته .

يرتكز هذا القول على كلتا روايتي الطفولة لدى متّى (1 : 18 – 25) ،  ولوقا ( 1 : 26 – 38) . فبحسب رواية البشارة في لوقا ، مريمُ تسأل الملاك ، الذي يبشّرها بتجسّد عمّانوئيل في أحشائها :” كيف يكون ذلك ، وأنا لا أعرف رجلا ؟ (لو 1 : 34) . هذا يعني : ” وأنا لا أقيمُ شركة زوجيّة  مع أيّ رجل ” . فكلمة ” عرفَ ” في الكتاب المقدّس تعني ” علاقة حقيقيّة وزواجيّة ” . جوابُ الملاك يصفُ حبلَ مريم بيسوع على أنه معجزة قدرة ِ الله الخلاقة . إذا ليس هناك من أمرٌ عسير على الله . ونرى ،  في رواية متى ، الصورة أكثرُ وضوحــــًا ، إذ يفسّر الملاك في الحلم ليوسف ، خطيب مريم ، كيف ستصيرُ أمّا : ” فإنّ الذي حُبلَ فيها هو من الروح القدس ” (متى 1 : 20) . متى يرى في هذا الأمر ، إكتمال وعد العهد القديم ، الذي يذكرُه في ترجمته اليونانيّة : ” ها إنّ العذراء تحبلُ وتلدُ إبنا … ” (اش 7 : 14)  . وهذه الآية الغامضة ، تحتاجُ لدراسة أيضا !

يقول جان بول ميشو ، بأنّ متى الرسول فهم ” ميلاد ” يسوع بأنه ثمرة حبل بتوليّ . وهو يلجأ ، كما رأينا ، إلى نبوءة أشعيا ، لا ليُثبت هذا الحبل ، إذ إنه عنصرٌ تسلّمه هو ولوقا ، على الأرجح  ، من تقليد واحد ، بل ليدلّ على معناه . فإنّ نصّ أشعيا يربطُ يسوع بذريّة داود .

رغبة في البتوليّة …

إن سؤال مريم في لوقا 1 : 34 ، ما زال يُحرج المفسّرين . ذلك بأنّ مريم تقول ، في لغة كتابية ، إنها ” عذراء ” ! (لا أعرفُ رجلا ) . النصّ هو في صيغة الحاضر ، فهو ، في حدّ ذاته ، لا يفيد عن المستقبل .  إذن ، ما معنى ، في هذه الحالة ، هذا السؤال ؟

يجب القول أوّلا بأنّ هذه الآية 34  ، ليست مجرّد صيغة أدبيّة تفترضها البنية الشكليّة التي تقتضيها رواية التبشير . هذه الفقرة تُدخل شيئا جديدا على جانب من الأهميّة ، وهو فكرة  ” الحبل البتوليّ ” ، ولكنّ هذه الفكرة لا يجوز تفسيرها على المستوى التاريخيّ النفسيّ ، كما لو تسلّم لوقا تسجيلا لأقوال الملاك ولسؤال مريم (مجرّد التفكير في هذا الأمر الساذج ، نكون أقربُ إلى فكر وحلم صبيانيّ !) . لهذا ، لا يُبحث عن منطق هذا السؤال على مستوى حالات مريم النفسية ، بل على مستوى استخدام لوقا اللاهوتيّ للأسفار المقدّسة .

منذ أيّام أغسطينوس ، ساد الإعتقاد بأنّ مريم تعتذر عمّا عرضه الملاك لأنها نذرت نذر البتولية . لكن ، الكلام على نذر بالمعنى الحاليّ ، هو استباقٌ في الزمن ، علمًا بأنّ البتوليّة لم تكن موضوع تقريظ خاصّ في اسرائيل . كانت عزوبيّة أهل قمران حالة شاذة في الظاهر فقط ، إذ إنها كانت تعود إلى إهتمام بطهارة طقسيّة غريبة عن حالة مريم . ومع ذلك ، فإنّ المفسّرين الذين يتطرّقون إلى شرح الآية 34 ، يتكلّمون حتى في أيّامنا ، إن لم نقل على رغبة في البتوليّة (كيف يفسَّر زواجها في هذه الحالة ؟)  / فعلى ” اتجاه وعلى ميل شديد إلى الحياة البتوليّة ، وعلى توق خفيّ لها ، تشعر به مريم وتعيشه ، لكنه لم يتّخذ حتى ذلك الحين صيغة قرار ، لأن هذا الأمر كان مستحيلا في الوسط الإجتماعيّ التي كانت تعيشُ فيه .

يقول J.Gewiess  : ” لا يحسُن بنا أن نفهم السؤال إنطلاقا من الحدث ، كما لو كان تعبيرًا عن حالة مريم النفسيّة … ففي نظر الإنجيليّ ، يبدو السؤال طريقة أدبيّة لإفهام القارئ أنّ الحبل البتــــوليّ بقوّة الروح القدس يقتضي ولادة بتوليّة ، وأن مريم ولدت المسيح ولم تزلْ عذراء ” . هذا المستوى نراه معقولا ، إذ يُبقي الرواية رواية على مستوى العمق ، وعلى مستوى البنوّة الإلهيّة والإيمان بابن الله والتدبير الخلاصيّ .  ولهذا ، يصرّ التعليم المسيحيّ على أنّ لا تفاصيل دقيقة تذكَر في الإنجيل لأن ما يهمّ هو خلاص الله للعالم .

يقول أساقفة ألمانيا : إنّ نصّي متى ولوقا ليسا روايتين تاريخيّتين بالمعنى المعاصر للروايات التاريخيّة (أي : ليس هناكَ من مراسل صحفيّ من موقع الحدث ولا  كاميرات !) . ولكن لا يمكن رفضهما على أنهما من باب الحكايات والأساطير والخرافات ، بل يجبُ بالحريّ أن نفهمهما كما نفهمُ الروايات التقويّة التثقيفيّة (هَجّاده) (وأصل كلمة ” هجاده ” من فعل ” ناجاد ” العبريّ ومعناه : ” أخبر ، قصّ ،روى ” والهجاده هي روايات تجعل التاريخ الكتابيّ أمرًا حديثا معاصرًا ، وهذه الروايات هي مجموعة أخبار كانت متداولة في فلسطين في القرن الأوّل الميلاديّ ) ، التي تعيدُ رواية تقليد العهد القديم في ضوء اكتماله في العهد الجديد . فهناك ارتباطٌ لا يجوز حلّه بين الحدث ومعناه اللاهوتيّ ، وبين الرواية والإعتراف بما تعنيه . فتلك الروايات لا تنفي نواة تاريخيّة .  موضوع الولادة البتوليّة ، يواصلُ تقليد سلسلة روايات ولادات عجائبيّة لبعض المنقذين العظام : من يعقوب ، واسحق ، وشمشون ، وصموئيل ، إلى يوحنا المعمدان . وموضوع ” الولادة البتوليّة ” يواصل هذا التقليد ، وفي الوقت عينه ، يتجاوزه .

لنرى ما يقوله البابا بنديكتوس السادس عشر في كتابه الشهير “يسوع الناصريّ الجزء 3 ” الذي كان عن (طفولة يسوع) حول الولادة البتوليّة (اسطورة أو حقيقة تاريخيّة) :  ” روايات متى ولوقا ليست أساطير تمّ تطويرها لاحقا . بحسب  تصوّرهما الأصيل ، إنها مترسّخة بصلابة في التقليد الكتابيّ بشأن الربّ الخالق والمخلّص . أما بالنسبة ، مع ذلك ، إلى المحتوى الواقعيّ ، فإنّ تلك الروايات تأتي من التقليد العيليّ ، إنها تقليد متناقل يحافظ على ما حدث ” .  ويعتبرُ أيضا بنديكتوس مع يواكيم غنيلكا مستندا إلى جيرارد ديلنغ ، عندما قال : ” سرّ ولادة يسوع ، هل كان يجب أن يوضع ، لاحقا ، في بداية الإنجيل ، أم أنه وُضع بالأحرى هنا ليثبّت أن السرّ كان معلومًا ؟ إلا أنه لم يكن مطلوبًا الكلام عنه كثيرًا وجعله حدثا يمكن التصرّف به “.

هناك نصّا حمل المسيحيّة الغربيّة على التفكير منذ الأزمنة الآولى ، وكأنه نبوءة لسرّ الولادة البتوليّة . نرى في قصيدة فرجيل الرعوية الرابعة ، التي هي جزء من ديوانه الشعريّ الريفيّ الذي كتبَ أربعين سنة تقريبًا قبل ولادة يسوع . بين أبيات ممتعة عن الحياة الريفيّة ، تصدحُ هنا فجأة لهجةٌ مختلفة جدا : إنه يعلن عن قيام نظام كبير جديد للعالم قائم على ما هو ” مستقيم ” . لقد عادت العذراء ” سلالة جديدة تنزل من أعالي السماء ، لقد ولدَ ولدٌ ، به تنتهي ذريّة الحديد ” .

ويُجيبنا البابا بنديكتوس عن سؤالنا أعلاه : هل هو حقيقيّ ، إذن ، قانون إيماننا المسيحيّ الذي يقول : ” وتجسّد من مريم العذراء ….. “؟ الجواب هو ، بدون ترّدد ، نعم . فلقد لفتَ كارل بارت النظر إلى أنه في تاريخ يسوع مناسبتان تدخل عملُ الله فيهما مباشرة في العالم الماديّ : الولادة من عذراء والقيامة من القبر ، حيث لم يبق يسوع ولم يتعرض للفساد . فهذان الحدثان يمثّلان شكّا للفكر المعاصر .

انتهى

مراجع المقال

1 – المسيحيّة في عقائدها ، مجلس أساقفة كنيسة ألمانيا

2 – اناجيل الطفولة ، الكاردينال جان دانييو

3- مريم بحسب الأناجيل ، جان بول ميشو

4- يسوع الناصريّ ج3 ، البابا بنديكتوس السادس عشر

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).