أختر اللغة
الرئيسية | متفرقات | بحث في الماضي البعيد للغات أوروبا بقلم د. ايلي مخول
بحث في الماضي البعيد للغات أوروبا  بقلم د. ايلي مخول
بحث في الماضي البعيد للغات أوروبا

بحث في الماضي البعيد للغات أوروبا بقلم د. ايلي مخول

بحث في الماضي البعيد للغات أوروبا

الهندو- أوروبية هي لغة افتراضية تعتبر الأصل الوحيد للغات الهندو- أوروبية الحالية. أعاد اللغويون بناء هذه اللغة الأولية المحتملة جزئيًا إنطلاقًا من أوجه التشابه بين اللغات التي غالبًا ما اختفت ولكنها حقيقية ومعروفة، وبخاصة من تحوّل صِواتيّ (متعلق بعلم الأصوات الكلامية) مطابق. وما الهندو- أوروبية اليوم سوى فرضية تحاول شرح أوجه التشابه التي تظهر بشكل منتظم. 

إذًا إن معرفة اللغة الهندية الأوروبية تستند إلى علم اللغات المقارن، ولا سيما علم الصَّرف  وعلم الأصوات اللغوية المدروسة في بُعدها التاريخي. يمكننا إعادة بناء بعض الجوانب، إن لم تكن محتملة، فهي على الأقل تفسيرية بقوة من وجهة نظر علم اللغات التاريخي، وعلم الأصوات، ومفرداتها وعلم الصَّرف. وثمة بحوث حالية تسعى الى إعادة بناء بعض سمات علم القواعد. 

كان الهندو أوروبيو ن الأصليون، وفقًا للنظرية الأكثر قبولًا على نطاق واسع، السكان الناطقين باللغة الهندو أوروبية البَدئية، وهي لغة سابقة للتاريخ أعيد بناؤها في أوراسيا. تأتي معرفة هذا الشعب بشكل أساس من عمليات إعادة البناء اللغوي، ولكن أيضًا من علم الوراثة

قد تكون تلك الشعوب عمّمت لغتها وثقافتها ورموزها ومعتقداتها على جميع شعوب أوروبا الحالية تقريبًا، من بلطيقيين وسلتيين وألمان ويونان ولاتين وسلافيين وبعض شعوب آسيا (فرس، أكراد، أوسيتيون، بشتون). وغيرها من شعوب إيرانية، هنود أرمن، إلخ.). 

الواقع أن السكان الذين تكلّموا الهندو أوروبية الأصلية لم يتركوا أي بقايا أثرية أو وثائق تاريخية يمكن أن تُنسب إليهم مباشرة: فقد ظلّ وجود الهندو- أوروبيين كشعب فرضية لا يمكن الأخذ بها. ولفترة طويلة كان الدليل الرئيس لتأكيد وجود هندو – أوروبين أوائل هو أوجه التشابه بين اللغات المختلفة التي تنتمي إلى المجموعة الهندو- أوروبية (الأناضولية، التوكارية، اللغات الإيطاليانية السلتية، اللغات الهندية – الإيرانية). ومع ذلك فإن اكتشاف أوجه التشابه بين المفردات وتماثل قواعد اللغة (تصريف الأفعال، الإعراب، وعدد حالات النحو) لا يسمح باستنتاج تحديد موضع نقطة أو نقاط انطلاق مجموعة من المتكلمين بالهندو  أوروبية الأولية. 

تنتمي معظم اللغات المستخدمة في أوروبا إلى شجرة واحدة: الهندو- أوروبية. ويجري العمل على إعادة بناء تاريخ تلك الشجرة إنطلاقًا من لغة أصلية (قومية) مشتركة تشتق منها عدة فروع تشمل المئة والأربعة وأربعين لغة حاليّة. وبالتالي تنتمي الدانماركية إلى الفرع الجرماني، والإيطالية إلى اللغات المشتقة من اللاّتينية.السؤال: من تكلّم بها وكيف انتشرت؟ 

نشير هنا الى أن الألماني Franz Bopp أيّد، بمحاضراته حول الهندو أوروبية البدئية، علم اللغة المقارن وأسس، من خلال تعليمه ومنشوراته، علمًا جديدًا، وقواعد مقارنة. فضلاً عن ذلك أثبت انتماء اللغات السلتية إلى اللغات الهندو أوروبية. وكان لا بد في الواقع، من انتظار السنوات الأولى من القرن التاسع عشر لكي يتناول الألمان، أمثال فرانتس بوب والأخوين ياكوب وفيلهِلم غْريم، وبشكل مواز شخصية منعزلة وأقل شهرة، الدانمركي  Rasmus Rask، حقلاً غير مكتشف حتى ذلك الحين يخص العلاقات التي تقدمها للمراقب اليقظ أوجه التشابه بين اللغات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية)، الجرمانية، السلافية والفارسية وخاصة السنسكريتية، لغة الهند القديمة،  التي انتشرت المعرفة بها آنذاك. إلى هذه المجموعة من اللغات إنضمت تدريجيًا اللغات السلتية، البلطيقية، الأرمينية، الألبانية، ثم الحثية والتوخارية في القرن العشرين، لتشكيل شجرة لغات سُمّيت بداية هندو- جرمانية، ثم هندو- أوروبية.

هل فرضت اللغات الهندو-أوروبية نفسها بالقوة، بالهجرات البطيئة، أم بنشرالأفكار؟ 

يرى عالم الآثار الإنكليزي كولين رينفرو، أن اللغة الهندو- أوروبية قد تكون انتشرت بفضل المزارعين في العصر الحجري الحديث (8000 سنة ق. م.). وانطلقت من الأناضول (في تركيا) يحملها السكان بحثًا عن أراض زراعية جديدة. لكن هذه الفرضية القريبة العهد لا تحظى بالإجماع.

أكّد عالم اللّغة والنحْو Antoine Meillet (1866-1936): “هناك لغات هندو- أوروبية ولكن لا وجود لشعوب هندو- أوروبية”. في الواقع، ان الإنتشار الاستعماري أو السياسي للغات تلك الشجرة (الإنكليزية، الإسبانية، البرتغالية، الفرنسية، الروسية …) قد أضفى إلى أن شخصا من اثنين تقريبا يتكلم واحدة منها اليوم. من خلال الجمع بين كافة اللغات الميْتة ]المنقرضة[ أو الحيّة تقريبًا في أوروبا وروسيا والأناضول وإيران وشمال أفغانستان ووسط شبه الجزيرة الهندية، تنقسم الشجرة الهندية الأوروبية – 144 من تلك اللغات المنطوق بها اليوم في العالم – إلى عدة فروع أو عائلات متشعّبة:

–  هندو- إيرانية (السنسكريتية ]لغة ميْتة[، الهندية، البنغالية، الفارسية، الكردية …)،

–  سلافية (البولندية، التشيكية، الروسية،البلغارية، السلوفينية …)،

–  بلطيقية (البروسية القديمة ]لغة ميْتة[، الليتوانية …)،

–  أناضولية (الحِثّية ]لغة ميْتة[…)،

–  جرمانية (الغوطية ]لغة ميْتة[، الفلمندية، الهولندية، الألمانية، الإنكليزية، الدنماركية، النرويجية، الأيسلندية، السويدية …)،

–  يونانية،

– لاتينية (الإيطالية، الفرنسية، الإسبانية، الكاتالونية، البرتغالية، الأوكسيتانية، السردينية، الرومانية…) ،

–  سَلتية (الغاليّة ]لغة ميْتة[، البريتانية، الويلزية، الإيرلندية …)،

–   توخارية ]لغة ميْتة[ (لغات محكية في تركستان الصينية)، إلخ.

–  ومنعزلتان اثنتان، ألأرمينية وألألبانية

منذ القرن التاسع عشر، أضاء العلماء المقارِنون (إختصاصيون في عِلم اللغات المقارَنة وقواعدها) بدأب ومثابرة على ذلك التشابه (وتلك القرابة الجينية) بين اللغات، وأعادوا بناء اللغة الأصلية، الهندو- أوروبية. ولكن فيما يتعلق بها، لا تزال هناك أشياء مجهولة جسيمة. متى وأين كانوا يتكلمون بها؟ كيف هاجرت من أيرلندا إلى نيبال، وتطوّرت؟ إذا كنا نعرف ما حصل في الماضي (على سبيل المثال بين اللاتينية والغالية، إلاّ أننا نجهل ما حدث قبل آلاف السنين من الميلاد، مع غياب كل مادة مكتوبة يمكن الإستناد اليها. وكما ثبت أن لغات أهلية (وطنية)، انقرضت الآن دون أن تترك أي أثر (باستثناء الأترورية ]لغة الإتروسك[ والباسكية على وجه الخصوص)، كانوا يتكلمون بها في كل أوروبا قبل وصول الهندو- أوروبيين، تزداد المشكلة تعقيدًا: هل فرضت تلك اللغات (الهندية الأوروبية) نفسها بالقوة، عن طريق الهجرات البطيئة ونشرِ الأفكار…؟

دعنا ننتقل إلى النظريات الغريبة التي أدت إليها مسألة الأصول تلك. إن الشك الذي زرعه اللغويّون لدى خبراء الآثار وعلماء السلالات والأجناس لم يعد جائزًا أو مقبولاً. هو أقل من ذلك لأن الطريقتين اللغويتين الخالصتين – علم التباعد اللغوي ]تاريخيا[ وعلم اللغات القديمة – المعتمدتين لإنشاء تسلسل زمني لتنوّع اللغات قد أظهرا حدودهما.

إن تسلسل التباعد اللغوي، الذي يزعم أن باستطاعته تقدير النسبة المئوية للكلمات التي تم استبدالها في لغتين متقاربتين وكذلك الأمر بالنسبة إلى التاريخ الذي كانت تنطق فيها الأصل المشترك، يبدو جِدّ تقريبيّ إزاء لغات مضت عليها آلاف السنين. فاللغة الجيورجية المعاصرة على سبيل المثال، قريبة جدًا من تلك التي كانوا بتكلمون بها قبل 1600 سنة، بينما تحوّلت الفرنسية أو الإنكليزية بشكل جذري في غضون بضعة قرون.

قيل أن الهندو-أوروبيين لم يعيشوا بالقرب من البحر لأنهم لم يستنبطوا الكلمة 

أما بالنسبة لعلم اللغات القديمة، الذي يعمل على تداخل أو تلاقي وجود واقع ملموس (اجتماعي، ثقافي، جغرافي، نباتي، إلخ) إنطلاقًا من كلمات هندو- أوروبية إُعيد بناؤها، فيجب التعامل معه بعناية فائقة. ليس فقط بسبب الإنحرافات التي طرأت في مجال تطور دلالات الألفاظ (ما يفسر أننا نجد كلمات مثل ]سمك[سلْمون أو بتولا ]أو سندر، جنس أشجار حَرجية من الفصيلة البتولية[ في مناطق لا وجود لها)، ولكن أيضًا لأنه جرى استخدام تلك الحُجّة بالمقلوب. فعلى سبيل المثال، قيل إن الهندو- أوروبيين لم يقيموا بالقرب من البحر لأنهم لم يخترعوا المفردة. يعلق البروفسور دانييل بيتي “قد يكون ذلك صحيحًا، إلاّ أنه يحتمل أيضًا الخطأً، لأننا إذا أخذنا بهذا البرهان يتبين لنا أن المتكلمين بالهندية الأوروبية كانوا بلا يدين، وهي كلمة أخرى غير موجودة في أصل اللغة الهندو- أوروبية !

من جهته قام كالفيرت واتكينز، الخبير الأميركي الكبير بالهندو- أوروبية، على سبيل المثال بتصويب عبارات ليست فقط ذات طابع لغوي، صَرفي ونحوي، بل شِعري أيضًا. وهكذا يظهر الأخير أننا نجد مادة لغوية مشتركة في جميع اللغات الهندية الأوروبية لنقول “البطل صرع التنين”.

ومع ذلك، لا شيء من ذلك يفيدنا عن الموطن الأصلي للهندو- أوروبية. في هذا الموضوع، تبقى النظرية السائدة التي عرضتها عالمة البشريّات الليتوانية ماريا جيمبوتاس (1921-1994) أواخر الخمسينيات تساوي بين أوائل الهندو- أوروبيين وفرسان كورغان شبه الرحّل الذين عاشوا في السهوب (البراري) جنوب روسيا قبل 6500 عام. بعد ألف سنة، وعلى مدار الألفيّتين التاليتين، تمكن الكورغان من غزو أوروبا الوسطى  والأناضول وغرب آسيا تدريجيا، والإطاحة باللغات الأصلية. لإثبات تلك النظرية، يكشف علم اللغات الهندو- أوروبية عن مفردات فروسية مشتركة قديمة جدًا. ومع ذلك، يحدد عالم اللغات البريطاني برنارد كومري، مدير معهد ماكس بلانك لعلم البشريات التطوري: “نحن نعرف اليوم أن تطور الحصان كأداة للحرب في السهوب قد جاء متأخرًا جدا، حوالي 2000 عام. إذًا يكون دخول اللغات الهندو- أوروبية البدائية الى أوروبا منذ 3 إلى 4000 عام فقط “. والحال أن تعيين مثل هذا التاريخ مستبعد. إذ يجب علينا في الواقع أن نتصوّر أن لغات مختلفة قد تطورت بالتوازي بسرعة مذهلة، حيث أن لدينا آثارًا قديمة جدًا للتنوّع، كما تشهد عليه الألواح الميسينية التي ترقى إلى 1500 سنة قبل الميلاد.

هذا هو أحد الأسباب التي دفعت عالم الآثار الإنكليزي كولين رينفرو إلى إطلاق فرضية جديدة عام 1987. بحسب تلك الأخيرة، تكون اللغات الهندو- أوروبية البدئية متداولة قبل ذلك بألفي عام وفي الأناضول من قبل مزارعين من العصر الحجري الحديث بين 9500 و8000 سنة قبل الميلاد.

وعليه يكون انتشار الهندو- أوروبية قد لحق بالزراعة بصورة بطيئة ومسالمة. وعلى مرّ الأجيال، وبحثًا عن أراض زراعية جديدة، انتقلت مجموعات صغيرة غربًا، ووصلت في نهاية الأمر إلى اليونان منذ 8000 عام بعد عبور بحر إيجه. من هناك، يمكن أن يبدأ تاريخ أوروبا الغربية، حيث راح السكان يتأقلمون تدريجيًا مع الإرث الهندو- أوروبي دون أن يضطرّوا الى مواجهة هجرات شعب أصليّ. بعد 3000 سنة، إنجذب سكان السهوب الروسية بتلك التقنيات الجديدة وأطلقوا موجة أخرى نحو الشرق، حيث نشأت مجتمعات إيران الفارسية والهند الفيدية (الهندوسية).

يشير علم الآثار الى أن الزراعة نشأت على وجه التحديد في الأناضول (وفي الشرق الأوسط) في الألف الثامن قبل الميلاد. في ما يخصّ الألسنية فهي تؤكد أن لغات الأناضول، ومنها الحثية، المكتشفة عام 1917، هي واحدة من أولى تفرّعات اللغة الهندية الأوروبية. وفي الآونة الأخيرة، حاول عالِمان أحيائيان نيوزيلنديان في مجال النشوء والإرتقاء أن يبرهنا بتحليل حسابي ]خوارزمي[ أن الهندو- أوروبية قد اختلفت عن اللغات الأخرى منذ 7800 الى 9800 عام، وعلى الأرجح حوالي 6700 سنة قبل الميلاد.

مهما كانت الفرضية الأناضولية مغرية فإنها لا تحظى بموافقة غالبية اللغويين ولا علماء الآثار. وهذا دون أن تثار مسألة الصلة بالنهج: الجينات والسمات الثقافية لا تنتشر في الواقع بالطريقة نفسها. من هنا ضرورة البحث عن طريق ثالث.

لغة هامشية 

بادئ ذي بدء، إذا كانت الهندو- أوروبية البدئية، ومن بعدها اللغات الهندية الأوروبية الأولى قد انتشرت بقفزات متتالية إنطلاقًا من مركز ما، ينتج عن ذلك أن اللغات الأناضولية يجب أن تتمخّض عن أكبر عدد من الابتكارات الخاصة. وخلافًا للمتكلمين باللغات الهامشية، من المفترض في الواقع أن الأشخاص الذين لزموا مكانهم كانوا على درجة أدنى من التواصل مع لغات إخرى. والحال “ان الأناضولية هي من أخص اللغات الهامشية، ما يجعلها مرشّحة لا قيمة لها في الموطن الأصلي”، كما يؤكد دانيال بيتي، بالاتفاق مع غالبية اللغويين. إذ يبدو لهم في الواقع، أن من المستحيل إرجاع الهندو- أوروبية إلى عهد بعيد إلى هذا الحد، حيث لا يوجد أي أثر لهذا التمدد في مفردات اللغة. على سبيل المثال، يمكننا إعادة بناء مصطلحات تقنية زراعية متطورة إلى حد ما، لكنها لا تعود إلى أكثر من 3500 قبل الميلاد، كما يقول برنارد كومري الذي “أشار إلى أن هناك كلمة هندو – أوروبية بدائية  للمحراث في جميع اللغات الهندو – أوروبية  في أوروبا، وربما في لغات الأناضول. والحال أن علماء الآثار يعرفون أن المحراث قد ظهر في وقت متأخر جدًا بالنسبة لتطورالزراعة بأوروبا، حوالي 5000 سنة من الآن، أي بعد ذلك بكثير من تعميم الزراعة في أوروبا التي بدأت تنتشر منذ 8000 عام في الجنوب الشرقي وقبل 6000 عام في الشمال الغربي “. من الواضح أن اللغات لم تبدأ في التباعد إلا بعد -3500. ومع ذلك ، إذن ، سد فجوة 3000 سنة بين رحيل الأناضول واختراع المصطلحات الزراعية؟ 

يقول البروفيسور كومري: “بالنسبة لي، عرف المتكلمون باللغة الهندو – أوروبية  الذين قدِموا إلى أوروبا المحراث، وبالتالي بعض التكنولوجيا المتقدمة، حيث أن أوروبا كانت بالفعل منطقة زراعية عندما وصل اليها جماعات هندية أوروبية تمتعت بمزايا تكنولوجية أو تنظيمية  اجتماعية لدرجة أن لغاتهم كانت محاطة بهيبة ساعدتها في تغطية جميع المناطق التي يدخلون إليها “. ربما كانت الهندو – أوروبية وسيلة للدردشة المتزامنة، استخدمها المقيمون كلغة مساعدة (أو إضافية). وقد حلت تلك اللغات شيئًا فشيئًا محل اللغات الأصلية، دون أن يحصل تبدّل في السكان. أظهر علم الوراثة بالفعل أن الحمض النووي للصِّبغية (الكروموزوم) Y في أوروبا الغربية كان يختلف تمامًا عن الحمض النووي في الشرق، ذلك أن الأنماط الفردانية (الخاصة بالصِّبغية) الغربية كانت نتيجة امتزاج أو إختلاط جينات القادمين الجدد من الشرق مع تلك العائدة للسكان المحلّيين السابقين للهندو أوروبيين.

“نحن نعلم اليوم أن تطور الحصان كأداة للحرب في السهوب قد جاء متأخرًّ جدًا، حوالي 2000 عام ق. م.” 

يبقى تحديد الأصل الجغرافي لأولئك المزارعين الطليعيين … ولم يحسم الجدل القائم حول موقع اللغات الأناضولية: هل كان هناك فرعان، منذ البداية، أحدهما أناضولي والآخر يضمّ كل اللغات الهندو- أوروبية الأخرى؟ أم أن التمايز كان تدريجياً؟ في الحالة الأولى، يعتقد أن الأصل الجغرافي للغات الهندو- أوروبية غير الأناضولية هو تلك المنطقة من كورغان الواقعة في شمال البحر الأسود. وعليه فإن الفرعين يوفقان بين الفرضيتين ويتفقان مع الإختصاصي في علم الوراثة السكانية لويجي كافالي- سفورز، الذي أوحى  قبل بضع سنوات، الى انتشار الهندو- أوروبية في عدة موجات: لقد قام المزارعون الأناضوليون بتثبيت لغتهم أوّلا بأوّل مع استصلاح أراض جديدة، وبعد 2000 سنة وصل خيّالة البحر الأسود إلى تلك المناطق. تتزاوج اللغات الجديدة الحالية مع الهندو- أوروبية المألوفة جدًا رغم أنها لم تعد مفهومة. وهكذا ندرك بشكل أفضل لماذا تعتبر اليونانية لغة منعزلة. ولكن لا يُعرف من أين يأتي الفرعان الأصليان.

يرفض البروفسور كومري الجزم، لكنه يقبل بتقديم اقتراح يراه جدّ نظريّ: “بالقدر الذي نلاحظ أن لغات الأناضول كانت مَحكيّة في بيئة لغوية غير هندو- أوروبية قد أثّرت بشدة على الحِثّيّة (إستعارات وافرة من المفردات ولكن أيضًا بعض السمات النحْوية)، يمكننا أن نتصوّر أن حمَلة اللغات الهندو- أوروبية قد وصلوا إلى الأناضول (من البحر الأسود، من مكان آخر؟) واندمجوا مع المواطنين الأصيلين الذين راحوا يتكلّمون بلغات الغزاة مع الاحتفاظ بميزات لغاتهم “. تتفق هذه الفرضية إلى حد ما مع نظريات عالم الآثار البريطاني جيمس مالوري حول “الثقافة الدخيلة” عند الهندو- أوروبيين الأوائل.

الشجرة: عرْض متقادم؟ 

تصطدم المقاربات التي تستسيغ المَواطن المتعددة والاستردادات والتأثيرات المتبادلة والإستعارات وعمليات التمازج والظواهر المتشابهة بالبحث الأسطوري عن أصل متطابق بوضوح، على نحو ما يريده تنظيم العائلات في شجرة بجذع واحد. سيّما وأن المناقشات لا تزال حية حول المكان الصحيج لكل عائلة: ربما تكون لغة ما أقرب إلى لغة من فرع آخر أكثر من تلك الواقعة في فرعها. نتمثّل بالإنجليزية. هذه اللغة الجرمانية إستعارت حوالي 50٪ من مفرداتها من اللاتينية واللغات المشتقّة منها، كالفرنسية، وذلك في عدة موجات. ربما حان الوقت لاستبدال الشجرة بأخرى تأخذ في الاعتبار الشبكات، مثل الجذمور ]أو الجِذر[، والذي من شأنه أن يعبر عن المقارنات بين اللغات في أوقات مختلفة من التاريخ. من وجهة النظر تلك، يمكن أن يكون علم الألسنية العامة (انتشار اللغات جغرافيا) مفيدًا جدًا. وبتسليط الضوء على تأثير اللغات على جيرانها الجغرافيين، يتبين أوجه تشابه مذهل بين بعض (عائلات) لغات غير منضوية وراثيًا. وهكذا يجري دراسة الهندو أوروبية بالنسبة الى علاقتها بالمجموعات المجاورة كالأورالية والأفرو آسيوية (التي كانت تسمى سابقًا حاميّة – ساميّة). يتبين من كل ذلك ودون الخوض في مزيد من التفاصيل، العديد من أوجه التشابه التي تدعونا الى التساؤل عما إذا كانت وليدة الصدفة أو الاتصال اللغوي أو إلى أصل مشترك.

النتيجة: تبدأ الشكوك في التبلور حول طريقة المقارنة. فهي يمكن أن تقود الهندو أوروبيين الى التخلص من ارتيابهم الشهير إزاء الفروع الأخرى، والعمل فعلاً مع علماء الآثار. لأن هذا التعاون سيكون وحده قادرًا ذات يوم على كشف سرّ أصول الهندو أوروبيين، التعدّدي على الأرجح.

 

د.ايلي مخول

عن ucip_Admin