هل يشكُّ أحدٌ في أنّ الإنترنت بات المتنفّس شبه الوحيد للأفراد، وأشبه بوعاء تُرمى فيه كل الخيرات، إلى جانب كل أنواع القذارات؟ لا وجه محدّدا لذلك الشيء، فلا هو خيرٌ، ولا هو شرٌ. هو فضاء، يشبه كل شيء فينا. صورة غيرُ منقّحة عن طبيعتنا البشريّة.
لا يأخذ الإنترنت شكلاً، وهو ليس «منظومة» قيم، ولا ثقافة في حدّ ذاتها. يعمل ويتحرّك ويبني سلطةً، لا يمكن لجمها أو حتى السيطرة عليها، لا في إطارها الضيّق (أفراد/ مؤسسات)، ولا في إطارها الأوسع (دول)، بالرغم من أنّ الحكومات سعت وتسعى جاهدة إلى تقييدها. فالشبكة قد تعمل لمصلحة، أو ضدّ مصلحة، الحريّة و»الديموقراطية». ومع ذلك، يبقى أنّ ذلك الكائن، الذي بات ضرورة وجوديّة، يعمل من منطلقات قوّة. عندما بدأت تلك القوة تتجلّى، فإنّ ما كانت الحكومات تفعله، ولا تزال، هو فرض الحظر أو منع الوصول إلى مصادر المعلومات. ولكن، وبحسب التقرير السنوي لحرية الانترنت الذي صدر، حديثاً، عن منظمة «فريدوم هاوس» الأميركية، فإنّ الحكومات باتت تُظهر ميلاً أكبر نحو استخدام أساليب قمعية أكثر تطوّراً.
أسهم سبعون باحثاً في إعداد التقرير، عن طريق فحص القوانين والممارسات ذات الصلة بالشبكة العنكبوتية، ويركز على تطور الحريات خلال الفترة ما بين أيار العام 2013 وأيار العام 2014.
يشمل تقرير المنظمة غير الحكومية 65 دولة، تقسّمها نتائج البحث إلى دول تنعدم فيها حرية الانترنت، ودول أخرى تتمتّع بحريّة جزئيّة، وفئة ثالثة «حرّة». وتعتمد «فريدوم هاوس»، في تصنيفها، على مؤشّرات «عراقيل الولوج» إلى الشبكة، بالإضافة إلى انتهاك حقوق المستخدمين، وتحديد طبيعة المضمون المنشور على الشبكة.
ومن بين الدول المشمولة في التقرير، شهدت 36 دولة تدهوراً حاداً في حرية الإنترنت لديها، وكانت أسوأها روسيا، تليها تركيا وأوكرانيا. أما الدول الأكثر انتهاكاً لحرية الانترنت، فكانت كلا من إيران وسوريا والصين، فيما سجّل لبنان انخفاضاً في مؤشّر الحريات بنسبة درجتين، وكذا فعلت الولايات المتحدة، في حين سجلت كلّ من روسيا وتركيا انخفاضاً، هو الأعلى، بنسبة ستّ درجات. واحتلّت أيسلندا المركز الأول عالمياً لجهة حرية الإنترنت، وتبعتها كل من إستونيا، وكندا، وأستراليا، وألمانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وهنغاريا.
في العالم العربي… شرّ مطلق
يتمتّع لبنان بحرّية «جزئيّة»، حيث يواصل ناشطوه، بحسب التقرير، توظيف وسائل الإعلام الاجتماعي للإضاءة على قضاياهم، مثل التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين، إن لجهة العنصرية التي تمارس ضدّهم أو حملات تبرعّات خصوصاً خلال فصل الشتاء. ويسلط التقرير الضوء على اعتقال بعض الناشطين اللبنانيين، ويقول إن بعضهم تلقّى تهديدات بالقتل.
لبنان ليس إلّا بداية الطريق عربياً. فعلى سبيل المثال، استخدمت البحرين أسلوب التجسّس لاعتقال معارضين للنظام، وحبسهم بسبب تغريدات تندّد بقمع الحكومة عبر «تويتر».
وفي خضم أزمتها، تحجب سوريا كل المواقع المعارضة، بالإضافة إلى أن لديها جيشاً من «قراصنة» المعلوماتية (الجيش السوري الالكتروني)، والذين أصابوا، بحسب تقرير المنظمة، أكثر من عشرة آلاف جهاز كومبيوتر في العالم.
وتجدّد السلطة الدينية في السعودية تحذيرها من «شرّ» وسائل التواصل الاجتماعي. ففي 15 أيار/ مايو الماضي، صرّح مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ بأنّ من «يستخدم تويتر إنّما خسر الدنيا والآخرة». وفي سياقٍ موازٍ، أعلنت الحكومة، في نيسان/ أبريل الماضي، أنها ستبدأ مراقبة أشرطة الفيديو التي يجري تحميلها عبر «يوتيوب»، وذلك لضمان الامتثال للقوانين المحلية. وقد حجبت عشرات المواقع الإخبارية في شباط/ فبراير الماضي، بعدما فشلت في الحصول على تراخيص من الحكومة.
وفي المنطقة الشرقية، حيث استمرت الاحتجاجات المتفرّقة لسنوات، حكم على سبعة رجال لمدة 5 إلى 10 سنوات، وذلك بموجب قانون مكافحة «الجريمة السيبيرية»، بعدما اتهمتهم السلطات بـ«التحريض على الاحتجاجات والضرر بالنظام العام» من خلال موقع «فايسبوك». وعلى الرغم من ارتفاع مستويات استخدام وسائل الإعلام الاجتماعي في المملكة، فإن الرقابة الذاتية تبقى سائدة عند مناقشة مواد حساسة مثل: السياسة أو الدين أو الأسرة الحاكمة، بحسب التقرير.
في تركيا… خطر على المجتمع
في تركيا، يأخذ الواقع منحىً تراجيدياً، بطريقة مغايرة. إذ تشير «فريدوم هاوس» إلى عمليّات حظر وسائل التواصل الاجتماعي التي تقوم بها الحكومة التركية (حجب «تويتر» في آذار/ مارس الماضي، والذي يعتبر بحسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «أسوأ خطر على المجتمع»)، والقرصنة الإلكترونية التي تتعرّض لها مواقع المعارضة، فضلاً عن الهجمات التي تستهدف الصحافة الإلكترونية.
كما خفضت «فريدوم هاوس» تصنيف أنقرة لحرية الصحافة ليصبح «غير حرة» بعدما كان «حرة جزئياً» في العام 2013، مشيرة في هذا السياق إلى أنّ تركيا تعدّ من أكثر بلاد العالم حبساً للصحافيين، فضلاً عن عدم تطبيقها الضمانات الدستورية والقانونية لحرية الصحافة، والممارسات القمعية للسلطات التركية ضدّ الصحافيين والإعلاميين المعارضين وملاحقتهم.
وكان البرلمان التركي قد أقر قانونا، قبل أيام، يشدّد ضوابط الانترنت من دون اللجوء إلى القضاء، ويوسع بذلك سلطات جهاز الاتصالات في البلاد. وتأتي الخطوة بعد إقرار قانون في شباط/ فبراير الماضي، يسمح للسلطات بالدخول إلى صفحات الكترونية من دون إذن قضائي مسبق. ويوسّع القانون الجديد هذه السلطات، إذ إنّه يسمح لهيئة الاتصالات التركية بحجب مواقع إلكترونية، إذا اقتضت الضرورة، لحماية «الأمن القومي واستعادة النظام العام ومنع الجرائم».
روسيا ليست أفضل حالاً، إذ إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان قد أكّد، في كلمة أمام منتدى الإعلام منتصف العام الحالي، أنّ شبكة الانترنت هي مشروع من صناعة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه). وسبق للبرلمان الروسي أن أقرّ قانوناً يُلزم مواقع التواصل الاجتماعي الإبقاء على خدماتها في روسيا، وحفظ المعلومات عن مستخدميها لمدَّة ستَّة أشهر.
حيث تتفق أميركا مع إيران
وتتنقل تقنيات القمع من بلد إلى آخر، لتبلغ ذروتها في الولايات المتحدة، بحسب ما كشفت تسريبات المحلّل السابق لدى «وكالة الأمن القومي» الأميركية إدوارد سنودن. وذكّر التقرير بقيام الاستخبارات الأميركية بالتجسس على الهواتف والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال نظام «بريسم»، في ما يمكن أن يعدّ الفضيحة الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة، والانتهاك الأكبر للخصوصية.
ويستخدم التجسس، ليس لجمع بيانات عن الأفراد أو المؤسسات، فحسب، إنّما لمعاقبة كلّ «الأصوات المعارضة» للمنظومة الأكبر أو «السيستم». وهو تحديداً ما أتاحته «الديموقراطية» الأميركية من خلال نظامها التجسّسي «بريسم»، والذي وبرغم الفضيحة، أبقاها على «حرّيتها». وبحسب المنظمة «المستقلة»، فإن تسريبات سنودن استخدمت كذريعة لبعض الحكومات لترفع «قدرات الرصد الخاصة بها».
وعلى خطّ مقابل، تواصل إيران عقوباتها القاسية، والتي أدّت في بعض الأحيان إلى سجن مستخدمين لمدّة طويلة بسبب أنشطتهم على الانترنت، بالإضافة إلى أنّها لا تزال تحجب مواقع التواصل الاجتماعي بالرغم من الأصوات المعتدلة داخل الحكومة والتي تطالب بضرورة إتاحتها للمستخدمين.
الإنسانيّة متصلة؟
يقول مخترع الشبكة البريطاني تيم بيرنرز لي، إنّ «استخدام الإنترنت يعكس حالة البشرية. ومثل كل أدوات القوة، فإنّه يُمكن استخدامه للخير، كما يمكن استخدامه للشر. يستخدمه الطيبون كما يستخدمه الأشرار. وعندما أنظر إلى الانترنت، أرى الإنسانية متصلة».
«النضال» من أجل التحرّر من القمع الذي يُمارس من خلال الانترنت، هو، في الواقع، جزء لا يتجزّأ من الحرية بمفهومها الأوسع. ولا يمكن للحرية عبر الشبكة أن تكون بديلةً عن الحريّة في العالم الحسي، إذ أنّهما مكمّلتان لبعضهما البعض.