أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | خوفها المفرَط… يُدمِّر أبناءَها
خوفها المفرَط… يُدمِّر أبناءَها
خوفها المفرَط... يُدمِّر أبناءَها

خوفها المفرَط… يُدمِّر أبناءَها

كارمن (65 عاماً) تغسل الأواني في المطبخ، وفجأةً تسمع صوت مكابح سيارة تعلو وسط السكون على الطريق العام حيث تمرّ آلاف السيارات يومياً، فتصرخ: «إبني». هي تعتقد أنّ ابنَها قد تعرّض لحادث، لأنها مُصابة بفرط الخوف فتتخايل الخطر في كلّ مكان، وتخشى من أيّ شيء حدّ الإنهيار.
لاشكّ أنّ الحرب اللبنانية ساهمت بإتلاف «أعصاب» الكثير من الناس وخصوصاً الأمهات مواليد تلك الحقبة وما قبلها. فهؤلاء عايشن الموت والدم والخطر القاتل يومياً وصمدن في وقت الشدائد وقاومن، إلّا أنهنّ تحوّلن إلى منهارات في وقت السلم.

لا تفهم دارين (30 عاماً) سلوك والدتها «الخائفة في كلّ الظروف». وتؤكد لـ»الجمهورية»: «أثناء الحرب الضروس في منتصف السبعينات وبداية الثمانينات يروي أفراد العائلة أنّ أمي كانت تتنقّل يومياً من قريتها في كسروان إلى بيروت تحت القصف لمزاولة عملها، وكانت تترك وراءها أمَّها غارقة بالدموع جالسة وسط الشموع تتضرّع عودتها بخير وسلامة.

أما اليوم وقد زال الخطر وانتهت الحرب وانفكّت معايشة الموت تبدو أمي أكثر من «خوّيفة»، نوبات من الهلع تضربها إن تأخّرتُ دقائق عن موعد عودتي إلى المنزل يومياً. هي تعيش ممسِكة بالهاتف لتطمئن على أبنائها في كل دقيقة، وإن تخلّف أحدنا عن الإجابة لساعة مثلاً يتراءى لها أنه خُطف أو تدهورت سيارته في وادٍ عميق».

تدقّق وتلاحق

لا تكتفي الأم «الخويفة» بالتصرّف وكأنّ مكروهاً كبيراً أصاب أبناءَها أو أحد أفراد عائلتها كل ما تأخّر أو تهيّأ لها وجود خطر، بل هي تنقل الخوف إلى نفوس أبنائها زارعةً داخلهم الخشية. تنبّه وتحذّر بانتظام من كلّ خطوة ينوون القيام بها. وبدل أن تشجّع أولادها وزوجها، تحثّهم على عدم التحرك وتدفعهم إلى الامتناع عن القيام بأيّ مبادرة، فأيّ خطوة تعني المخاطر.

ماذا عن الأبناء؟

خوف الأم المفرَط ومحاولتها تنبيه أبنائها بانتظام يؤثّر في نفوسهم وربّما يخيفهم فيصبحون مكبّلين غير قادرين على اتخاذ القرارات الجدّية أو المضي قدُماً لتحقيق الأحلام والإنجازات. تأثيرها المدمّر كبير لأنها تضخّ الخوف في نفوسهم تدريجاً منذ نعومة أظافرهم وحتّى بعد بلوغهم سنّ الاستقلال أو الزواج.

«لا تلعب في الخارج ربما دهستك سيارة»، «لا تركض ستقع»، «لا أريدك أن تذهب للسهر فربّما ذهبت ضحيّة إشكال عابر»، «لا تقودي سيارتك في الليل ربّما تبعك أحدُهم فسرقها ورماك على قارعة الطريق»، «لا تبادري لقبول هذا العمل ويغريك المال الذي ستجنينه ربما لن تتوفّر لكِ أجواء جيدة ومريحة»… وسلسة من الـ»لا» لا تنتهي. هي تعلّم أولادها السير في هذا العالم على مقياس الخوف والخشية والتردّد والفزع، وتستخفّ بقدراتهم وتعكس عليهم ضعفها وعجزها.

تشدّ الخناق

تخترع الأم «الخوّيفة» شتّى أنواع الأعذار لمنع أبنائها من أيّ مبادرة، فقد تذهب إلى التحجّج بزوجها، مؤكدةً لأولادها أنّ أبوهم يرفض قيامهم بخطوة معيّنة. وتزيد خناق سيطرتها على تصرفاتهم ولحاقها بهم إلى حدّ إشعارهم بالذنب كلّما تحرّكوا، مردِّدةً على مسامعهم أنهم يخيفونها ويحرمونها النوم والطمأنينة كلما خرجوا من المنزل. تفبرك تقنيات لمراقبة أولادها باستمرار وتلاقي أيّ طلب استقلال من قبلهم وكأنه اعتداءٌ عليها.

«أنا ربّيتك وتعبتُ كلّ حياتي لكْبِرت ما تقلّي ما بخصّك، ما بدّي ياك تسافر»… صحيح أنّ أيّ شخص قد يتأثر بالأخبار المأساوية التي تنقلها شاشات التلفزيون يومياً ومواقع التواصل الاجتماعي عن الحوادث والكوارث التي تُلمّ ببعض الناس، ولكنّ الأم المصابة بالخوف المفرط لا تدير مخاوفها بطريقة منطقية.

والنتيجة؟

لا تسمح هذه الأم لأبنائها بالاستمتاع بالحياة. ففي صغرهم عندما يكونون عاجزين عن مجابهتها لا يواجهونها ويلتزمون بإرشاداتها وإنذاراتها الخانقة فتحرمهم تنفيذ رغبات كثيرة.

وفي عمر المراهقة يبدأون بمجابهتها ما يؤدّي غالباً إلى اندلاع مشكلات ضروس بينها وبين المراهق الثائر، الذي يتحدّاها فيواجه الـ»لا» التي تتلفّظ بها دائماً، برفضها شخصياً وبرفض قراراتها وقبضتها، ويتخبّط لنيل الاستقلالية منها.

وحتّى إن لم يواجهها ولدها في عمر المراهقة لضعفه، فسيؤجّل هذا الصدام حتّى سن البلوغ أو سيفرّغه على طريقته الخاصة معتمداً أسلوب الكذب عليها والهروب منها.

يعاني أبناء هذه الأم من ضعف الثقة بالنفس ومن ضعف الثقة بالناس من حولهم وبالحياة عموماً. هم يقابلون العالم بقلق دائم ضخّته في نفوسهم، فيدركون تدريجاً أنهم عاجزون عن التأقلم مع الصعاب التي تعتري طريقهم. إدراكهم حقيقة الجوّ المسموم الذي تربّوا به، وإقتناعهم بقدرتهم يوماً على تخطّي واقعهم إن سعوا إلى كسر حواجز ترسّخت في داخلهم هو طريقهم نحو التحرّر من الخوف والضعف اللذين يدفعان الإنسان إلى هاوية الفشل.

فالحياة لا ترحم وتضع الجميع في ظروف صعبة وأمام مخاطر يجب تخطّيها، وعلى الشخص الراشد بعد بلوغه الوعي الكامل أن يدرّب نفسه على تخطّي المشكلات، وأن لا يتوقف طويلاً أمام أخطائه لأنّ الجميع يخطئ. فلا بأس بالفشل أحياناً لأنه يعلمنا النجاح في المرات المقبلة، أمّا مواجهة الصعوبات وتخطيها فيزيدان الثقة بقدرتنا على التحمّل والمضي قدُماً في أصعب الظروف.

سابين الحاج
الجمهورية

عن ucip_Admin