أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | عندما عرّيتُ رفوف المكتبة في بيتي بيسوع الملك
عندما عرّيتُ رفوف المكتبة في بيتي بيسوع الملك

عندما عرّيتُ رفوف المكتبة في بيتي بيسوع الملك

بعد إنجاز أعمال الترميم والتأهيل في مكان إقامتي الجديد في أشرفيّة بيروت، كان العائق العملانيّ الوحيد أمام انتقالي إلى هناك هو الوقت الذي يقتضيه حرمان رفوف مكتبتي من الكتب التي صادَقَتْها، واستأنستْ بعطورها، وأقمت معها حواراتٍ ليتني أستطيع أن أفكّ أسرارها، وأستجلي لغاتها. كنتُ أتوهّم أنّ المسألة لن تأخذ منّي أكثر من توضيب الكتب في صناديق من الكرتون، توضيباً عشوائيّاً سريعاً، على أن أخصّص كلّ صندوقٍ لنوعٍ محدّدٍ من الكتب: في هذه الكرتونة، كما في شقيقاتها الثماني، الكتب الفرنسيّة، أو المترجمة إليها، المعنيّة بالشعر الفرنسيّ والأجنبيّ العالميّ. في الكراتين الأخرى، كتب الرواية، والنقد الأكاديميّ. وهكذا…

لم يكن ذلك التوضيب محض نزهةٍ عابرة. ليس لأنّه عمليّةٌ شاقّةٌ فحسب، بل خصوصاً لأنّه عمليّة شائقة. تأمّلوا معي الفرق بين هاتَين الكلمتَين: شاقّة وشائقة! كان ينبغي لي، وأنا أرفع تلك الكتب عن رفوفها، أن أمسح ما علق بها من غبارٍ محبوب، وأن أفتحها واحداً واحداً، بيديَّ الإثنتَين، وأن أتلمّس أوراقها وصفحاتها، مستشعراً وجداناتها، وخصائصها، وأن أتوقّف عند بعضها قارئاً ومتفحّصاً، مستذكراً المكتبات الباريسيّة التي اشتريتُها منها، والظروف المحيطة بذلك، فضلاً عن التواريخ التي تُوثّق لسنوات شرائها.
أذكر المكتبات، ويمكنني الآن أن أسمّيها بالإسم، وأن أعيّن أمكنتها بالتحديد. هي جميعها في الحيّ اللاتينيّ، بحيث تتدرّج من ساحة السوربون في أعالي السان ميشال، مروراً بالمكتبات الموازية لشارع المدارس، وصولاً إلى السان جرمان دي بري، وخصوصاً مكتبتَي “لاهون” La Hune و”ليكوم دي باج” L’Ecume des Pages. أقول ذلك باعتزازٍ ما بعده اعتزاز. يُشعرني هذا الحيّ الباريسيّ بأنّي صديقه، وبأنّه صديقي.
لستُ في حاجةٍ إلى الثرثرة والتبجّح. فهذا المكان بالذات، ينضمّ إلى جملة الأمكنة العظمى التي وُلدتُ فيها، تلك الولادات التي تلتْ ولادتي الأولى في مسقطي، بزيزا. يا لهذا الحيّ اللاتينيّ الذي يجعلني محصَّناً بما لا قدرة للأقدار الغشيمة على أن تنال منه ومنّي. حصانتي العقليّة والروحيّة هذه، ليستْ خاضعةً للتغيّرات والتحوّلات الكثيفة، في الزمان والمكان والجسد والقلب، لأنّها محميّةٌ بفائقٍ من مواهب الطفولة المتمادية مع العمر، غير القابلة للطمس أو الامّحاء أو الزوال.
صرفتُ في توضيب الكتب الفرنسيّة نحواً من ثلاثة أيّام بلياليها. ترى، أكان ذلك التوضيب يقتضي منّي أن أعتزل العالم الخارجيّ كلّه، ومسؤوليّاتي حياله، وواجباتي نحوه، من أجل إنجاز هذه العمليّة البسيطة؟ لا بدّ أن أتدارك لأُعلِم القارئ بأنّ المسألة عندي تتخطّى تقنيّة التوضيب، لتشمل الوقت الروحيّ الذي يجذبني إليه، ويجعلني أسيره، باستسلامٍ لذيذٍ، يشبه استسلامي لقلبي.
كنتُ أريد أن أحتفل باستحضار الشعر الكونيّ كلّه في هذه الغمرة، وأن أنضمّ إلى الأوركسترا الشعريّة بالفرنسيّة، التي تجعلني عضواً فيها. هي أوركسترا لغة الشوق الفرنسيّة التي أفترض أنّي أنتمي إليها، بقوّةِ ما تُحدِثه فيَّ هذه اللغة من أفراحٍ وملذّاتٍ، سأحتاج إلى أعمارٍ غير متناهية لأحصيها، وأحصي تداعياتها اللغويّة والنفسيّة.
يهمّني أن أروي للقارئ أنّ وقتاً لا يُدرَك بالساعات، كان يتراكم فيَّ، ويزداد، ويشيع في كياني حالاً من سيولة الانخطاف تُنسيني الوقت الواقعيّ والحقيقيّ. لقد وجدتُني أتّحد بعالم المكتبة فأنساب فيه بطواعيةٍ وليونة، مهملاً الانشغالات الأخرى التي كانت تستوجب منّي أن أترك الرفوف وكتبها، وأغادر المكان إلى بيروت، لإنجاز بعض الأعمال الضروريّة، من مثل ملاحقة المعاملات اللازمة للحصول على رقم هاتفٍ جديد، ووصله بالانترنت.
أقف الآن أمام المكتبة العارية تماماً من الكتب بالفرنسيّة. يمكنني أن أتخيّل حجم المأساة التي تشعر بها الرفوف. أعني تماماً ما أقول. فالرفوف هذه كائناتٌ حيّة، تعيش ما تعيشه الكائنات من أوجاع الفراق والانفصال والاقتلاع. ولا بدّ أنّها خائفة من المصير الذي ينتظرها، فضلاً عن إحساسها المريع بالصقيع الذي يلفّ كينونتها، وبالصمت السلبيّ الذي ينبغي لها أن تتعوّد على وحشته القاتلة.
لا أتمنّى لكائنٍ أن يُصاب بوحشةٍ كهذه. وإذا كنتُ أشعر بهول ما ارتكبتُ على هذا المستوى، فإنّي عاجزٌ في الآن نفسه عن تدارُكِ هذا الارتكاب، لأنّ ما أنا مُقبِلٌ عليه من إقامةٍ جديدة، يستدعي منّي تجاوُز هذه “الجريمة”، احتفاءً برفوفٍ جديدة، لا بدّ أنّها تتحرّق إلى عيش علاقاتها المفترَضة مع كتبي المنتقلة معي إلى مكاني الجديد.
في الطبقة السفلى من مكتبتي الفرنسيّة، كنتُ خصّصتُ مكاناً للملفّات والمخطوطات والكاسيتات القديمة التي لم أجد في السابق وقتاً موضوعيّاً مناسباً للتفرّغ لها، ونبشها، ونفض الغبار عنها، بهدف ترتيبها، وتأهيلها، للعيش معي في الحاضر من أيّامي. عندما وجدتُني أمامها، هالني العمل الذي ينتظرني، أنا الذي لا أستحسن البتّة الاستغراق في أوراق الماضي. لا أخشى الحنين، ومطبّاته، وغواياته، لكنّي كنتُ أفضّل على الدوام أن أكرّس حياتي لمواجهة اليوميّ، واستطلاع خباياه، وطبقاته اللامرئيّة، مستجلياً غوامضه، مستفهماً عمّا يفلت منّي، هاشلاً في عوالم التخييل الجامحة.
كان لا بدّ من أن أنجز هذه المهمّة، مهمّة تحرير الملفّات والمخطوطات والكاسيتات من ماضيها، آخِذاً على نفسي ألاّ أنقل معي إلى مكان إقامتي الجديد أيّ غرضٍ يمكنني التخلّي عنه، لا عاطفيّاً ووجدانيّاً فحسب، بل خصوصاً على المستوى العملانيّ البحت. تخلّيتُ عن أوراقٍ ومخطوطاتٍ كثيرة بلا تردّد، لكنّي كنتُ شديد الاندهاش عندما “اكتشفتُ” أنّي أملك كتاباتٍ جمّة، غير منشورة، لا يجوز إلقاؤها في سلّة المهملات، بسبب أهليّتها التوثيقيّة والأدبيّة. وضعتُها جانباً، من أجل أن أُعِدّها بهدوء، وأهيّئ لها الظروف، لترافقني في حياتي الأدبيّة المقبلة.
ماذا أفعل بالجرائد والمجلاّت القديمة التي “كتبتْ” عنّي، منذ أوّل الثمانينات، لمناسبة صدور كتبي، أو في أحوالٍ وظروفٍ مختلفة؟ يجب أن أكرّس لها وقتاً لاحقاً، أو أن أطلب من أحد القيام بهذه المهمّة. هي، والكاسيتات، جعلتْني شغلها الشاغل. عشراتٌ من هذه الأخيرة تسجّل مقابلاتٍ وحواراتٍ إذاعيّة وتلفزيونيّة معي، من أيّام زمان، الثمانينات والتسعينات خصوصاً، قبل أن أتوقّف نهائيّاً عن الإدلاء بأحاديث، أو الظهور العلنيّ والاستعراضيّ في لقاءاتٍ واحتفالاتٍ وندواتٍ أدبيّة أو سياسيّة.
عندما انتقلتُ إلى معالجة المكتبة العربيّة، التي تتألّف من خمسة أقسام، ارتفاع الواحد منها متران وسبعون سنتيمتراً، بعرض تسعين سنتيمتراً، شعرتُ بالتحدّي الذي ينطوي عليه السؤال الآتي: ما الذي “يجب” ألاّ أنقله معي؟ كنتُ موزَّعاً بين الاحتفاظ بـ”كل شيء”، والتخلّي عمّا يمكنني التخلّي عنه، من دون أيّ ندم. الشعور بالضعف حيال الكتاب، يجعلني متألّماً، وحائراً، وشديد التردّد. أنا الذي أمضيتُ عقوداً في استجماع عناصر هذه المكتبة، بأيّ “حقٍّ” يجوز لي أن أتخلّى عن بعضها؟
هنا كان ينبغي لي أن أواجه جلجلةً حقيقيّة. أمضيتُ ثلاثة أسابيع في حلّ هذه المعضلة. لم يكن من السهل أن أتنازل عن كتابٍ من الكتب. أنا أتذكّر هذه الكتب، ومناسبات الحصول عليها، وكيفيّات وضعها على الرفوف، وظروف العودة إليها كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. ثمّة حياةٌ مشتركةٌ بيني وبين هذه الكتب، ليس أقلّها أنّها ترتفع عندي إلى مراتب الكينونة الروحيّة المطلقة. فهي تستولي عليَّ استيلاء المُحبِّين على المُحبِّين، وأنا أستسلم لها الاستسلام الذي لا أشعر حياله بأيّ تحفّظٍ أو تردُّد. وإذ أبوح بهذا، أدرك أنّ هذا القول ربّما يثير سخريّة الكُثُر، وإشفاقهم، فيقع في غير موقعه لدى “العامّة” من الناس، أكانوا من أهل الطبقة السياسيّة، أم من أهل المجتمع المخمليّ، أم من رجال المال، أم من سواهم.
كنتُ أخذتُ عهداً على نفسي ألاّ أرمي أيّ كتاب، مهما بدا لي أنّ أهميّته قد تراجعتْ عندي إلى الحدود الدنيا، بسبب “انتهاء عمره الأدبيّ”، أو بسبب تبدّل المزاج، أو النظرة النقديّة. لكنْ، كان لا بدّ من أن أتخلّى في نهاية المطاف عن بعض هؤلاء الأحبّة والأصدقاء، انطلاقاً من حكمِ قيمةٍ حيناً، وأحياناً لأنّه يستحيل عليَّ أن أنقل كتب المكتبة برمّتها. كان لا بدّ من اجتياز هذا الامتحان العاطفيّ والعقليّ الرهيب، فلم أرَ سبيلاً إلى تخطّيه إلاّ بالفرز على مرحلتَين: الأولى الاحتفاظ بالكتب التي لا بدّ من الاحتفاظ بها، لأسبابٍ تتّصل بقيمتها الأدبيّة؛ الثانية الاحتفاظ بالكتب التي يجب أن تكون في كلّ بيتٍ، من أجل إشاعة الرحابة فيه. وهذه فائدةٌ قد لا يدركها كثيرون.
كنتُ مطمئنّاً إلى طريقتي هذه، وخصوصاً أنّ الكتب التي قرّرتُ أن أستغني عنها، سأغادرها، وستغادرني، مكرَّمةً معزَّزةً، بعد أن تؤول ملكيّتها إلى مكتباتٍ عامّة، بينها مكتبة أحد السجون، ممّا يُعفيني من أيّ شعورٍ بالذنب حيالها. مثل هذا المصير يجعلني في سلامٍ عميقٍ للغاية. يجدر بي أن أزور هذه الكتب في حياتها الجديدة. وهذا ما سأفعله في القريب العاجل.
لن أستفيض في استقراء الحالات التي رأيتُني فيها واقفاً على السلّم، فاتحاً كتباً ومجلاتٍ محدّدة، مأخوذاً بمحتوياتها. لقد فعلتُ ذلك وأنا أشعر بلذّةٍ غريبة، كأنّي أقرأ ما أقرأه للمرّة الأولى، وأسافر فيه، مكتشفاً المعاني والصوَر والإيحاءات والدلالات التي تجعلني أكثر امتلاءً وبحبوحة.
أستريح قليلاً من عمليّة التفريغ، فأترك غرفة الكتب، لأنتقل إلى الشرفة، مستمتعاً بترصّد صوت المطر واقعاً على الزجاج، وبالخيوط والأشكال التي يرسمها، وهو ينزف نزفاً شبيهاً باللؤلؤ المرِن. لكنّي، إلى أنين المطر المستحَبّ هذا، أشعر بهديل الكتب يعبر كياني، ويمنحني الإحساس بأنّي لن أنام يوماً في العراء، ما دامت الكتب موجودةً على قيد الحياة في أوراقها، وقادرة بمواهبها اللامتناهية على أن تُؤويني بين صفحاتها، وتُدثِّرني بجموح ضوئها الدافئ الميمون.
أيّتها الكتب، أنا الذي أنامُكِ وأتدثّر بثيابكِ، هل أخشى أن أنام في عراء!
عقل العويط
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).