أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | “قلْ كلمتك وامشِ” وخيالات “الحياة” والصحافي القتيل كامل مروة
“قلْ كلمتك وامشِ” وخيالات “الحياة” والصحافي القتيل كامل مروة
الصحافي القتيل كامل مروة

“قلْ كلمتك وامشِ” وخيالات “الحياة” والصحافي القتيل كامل مروة

لا أذكر أنني تقاضيت من صحف لبنان قرشاً في مقابل ما كتبت، لكن كان لي عهد من حياتي، يا للغرابة، أتقاضى فيه مالاً مقابل ما أقرأ من هذه الصحف! كان ذلك زمن الدراسة الإبتدائية في الستينات. كنت يومذاك صبيا صغيراً، وكان والدي يصطحبي معه أيام العطل إلى مقهى “كيت كات” بالقرب من فندق “سان جورج” الشهير بمنطقة الزيتونة في الشطر الغربي من بيروت لأقرأ له صحيفة “الحياة” ومقالات مؤسسها كامل مروة. كان والدي يؤثر “الحياة” على غيرها من الصحف، ولم أعرف السبب إلا بعدما تقدم بي العمر، فأدركت حجم العلاقة بين الكلمة والمكان، وما تحدثه الجغرافيا من أثر في وجدان اللبنانيين وولاءاتهم، إذ كان والدي من الجنوب، ومن الجنوب جاء كامل مروة، ومنه جاء الشاعر جوزف حرب في ما بعد، ليمنح فيروز أرق الكلمات وأعذبها، ومنها “إسوارة العروس مشغولة بالدهب،

وإنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب”.
كان عنوان مقالات كامل مروة “قل كلمتك وامش”، وكانت تتصدر الصفحة الأولى. كنت أقرأها لوالدي “من قريبو”، ولا أظن أن اللغة العربية سلمت من لساني في تلك الأيام، ولا أظنها تسلم الآن!
كان والدي يعرف أنني صبي يحب اللهو ويضجر من الصحف، فكان يغريني بالقروش أقبلها عن طيب خاطر. كان هذا يحدث في الفصول الثلاثة من السنة، حتى إذا جاء الصيف انتقلنا للاصطياف في الجبل، بين عاليه وصوفر، وهناك كنت أذهب ووالدي إلى مقهى “الشامات” في بحمدون لأقرأ له “الحياة”. كان ذلك المقهى الذي يطل على وادي لامرتين الأخضر الجميل، اسماً لعائلة لبنانية تملكه، وكان يعج بالزبائن اللبنانيين والمصطافين العرب من الخليج، الهاربين من الحر الشديد في بلادهم، إلى هواء لبنان العليل. في “الشامات” رأيت أمين نخلة ونزار قباني للمرة الأولى، وفيه شاهدت موائد طويلة لم أر مثلها في حياتي، وعليها أطباق صغيرة متعددة من المازات اللبنانية المختلفة ومنها العصافير المقلية. أعترف بأنني أكلت العصافير، ولم أوقف هذه العادة البشعة إلا بعدما بلغت الخامسة عشرة على ما أذكر، وبدأت أعي مسؤولية ما آكل من طعام. من ذلك اليوم لم آكل عصفوراً ولا أي نوع آخر من أنواع الطيور، وأعتقد أن الحرب الأهلية اللبنانية ما كانت تحدث لو أننا شعب تحكمه ضوابط، ويدرك أن قتل هذه المخلوقات الصغيرة الوديعة جريمة. لكن هذا بحث آخر، لا مجال لعرضه الآن.
كان والدي أمّياً، كذلك كانت أمي، وكان جدي وكانت جدتي، وعندما كان والدي صغيراً أخذ العثمانيون جدي عنوة من بين مَن أخذوا من اللبنانيين إلى مناطق الحجاز، وسخّروهم في العمل على الطرق بين مكة والمدينة المنورة، فربي والدي من دون أن يعرف المدارس، حاله كحال الغالبية من سكان لبنان الجنوبي. لكن السر الغريب أن والدي، الذي كان يجهل القراءة والكتابة، كان يعرف الحساب بالفرنسية مثل آلة حساب، وبشكل لم أره عند أحد في حياتي. كانت معرفته بالطرح والضرب وغيرها من المعادلات تتخطى الأعداد البسيطة، وكان إذا سئل أن يضرب الرقم 23 بالرقم 72 على سبيل المثل، أجاب في ثوان معدودة، ومن دون ورقة وقلم، وقد فاتني أن أسأل والدي قبل رحيله، من أين جاءته تلك الموهبة العجيبة الغريبة في علم الحساب، وكيف تعلم الأرقام بالفرنسية.
عادت إليّ هذه الخواطر، وتذكرت والدي وأعداد “الحياة” القديمة، وفاجعة مقتل كامل مروة وأنا أجول في معرض عن الراحل الكبير أقامته عائلة الفقيد في “سوق بيروت”، لمناسبة مرور نصف قرن على غيابه. ولد كامل مروة في بلدة الزرارية جنوب لبنان في العام 1915 واغتيل ليل الإثنين 16 أيار 1966. اغتاله شاب موالٍ لمصر الناصرية داخل مكتبه برصاصتين كانتا كافيتين لتنقله إلى العالم الآخر، وتفقد الصحافة اللبنانية والعربية أحد أقطابها الكبار.
لا شك في أن المعرض قد أعاد إلى أذهان من زاره أشياء وأشياء عن لبنان الزمن الجميل، وإن لم يكن كله جميلاً، لكن لا أعرف في الحق ما إذا كانت تلك النسخ القديمة من “الحياة” التي حفل بها المعرض، قد عنت لأحد ما عنته لي من العلاقة بين القراءة والقروش! مهما يكن، المعرض كان مفيداً، رحلة مع الزمن في حياة كامل مروة ونضاله، نتف من صور قديمة حفر الزمن على بعضها أخاديد طفيفة تصور مؤسس “الحياة” طفلاً مع والديه وأفراد عائلته، وشاباً دون العشرين في مكاتب جريدة “النداء” لصاحبها كاظم الصلح، وأخرى تعود إلى 1937 السنة التي بدأ فيها العمل في “النهار” حتى بداية الحرب العالمية الثانية في العام 1939، ليسافر بعدها إلى أوروبا مطلع الأربعينات، ويعود بعد نهاية الحرب إلى بيروت ليطلق “الحياة” من مكاتب “النهار” في حي سوق الطويلة العام 1946 وله من العمر 31 عاماً، ويشهرها ويشتهر بها في لبنان والعالم العربي، ثم يطلق في العام 1952 جريدة “دايلي ستار” الإنكليزية وكانت أول صحيفة لبنانية تصدر بهذه اللغة، أتبعها بجريدة “لوماتان” الفرنسية، ليكون الناشر الأول والوحيد في تاريخ الصحافة اللبنانية الذي يصدر جرائد بثلاث لغات في آن واحد.
حفل المعرض، إلى جانب الصور الشخصية التذكارية، بعشرات اللوحات المختارة من الصفحات الأولى من “الحياة” القديمة، منها نسخة تعود إلى يوم من 1956 تصوّر جنود البحرية الأميركية التابعة للأسطول السادس يترجلون عن مراكبهم نزولاً على شواطئ بيروت، دعماً للبنان كميل شمعون، ضد مصر جمال عبد الناصر، في وقت كان الصراع البارد الساخن على أشده بين الشرق والغرب للسيطرة على مفاصل الشرق الأوسط. من النسخ أيضاَ، عدد يحمل الرقم 3030 مؤرخ في 17 آذار 1956 عنوانه الزلزال الكبير الذي ضرب لبنان وسوريا وأوقع عشرات القتلى والجرحى، وآخر يحمل الرقم 5188، مؤرخ في 16 آذار 1963، عن تحطم طائرة خاصة في بحر بيروت، على متنها رجل الأعمال اللبناني المثير إميل البستاني، ورفيقه في الأسفار نمر طوقان.
كان من الصعب عليّ وأنا أطوف بين اللوحات والصور، أن أخرج من ميعان العاطفة، وأعتقد أن الذين زاروا المعرض شعروا بما شعرت. تأثرت بالطريقة المفجعة التي اغتيل فيها كامل مروة وهو في نحو الخمسين من العمر، تاركاً وراءه زوجة صبيّة وأطفالاً وعشرات الألوف من المعجبين والأصدقاء والقراء في لبنان وبلاد العرب.
حدّقتُ في الصفحات القديمة علّني أتذكر ما إذا كان الصبي الذي كنته، قد قرأها لوالده في الجلسات الخصبة بينهما في بيروت وبحمدون. قدّرتُ أنه لا بد أنني قرأت شيئاً منها، ولو أن الذاكرة لم تسعفني. غير أن الصورة التي تركت في نفسي أبلغ الأثر، كانت عدد الثلثاء 17 أيار 1966 بعنوان “اغتيال كامل مروة في مكتبه”، وفوق العنوان صورة حزينة لكامل مروة بالأبيض والأسود. ما أكبر الفرق بين رصاص المطابع ورصاص البنادق. تتهاوى الكلمة الحرة بلكمة البارود، وتتراجع الأوطان إلى الوراء. تمر سنة على العرب ويفتتح مسلسل الهزائم موسمه بنكسة 1967. تثير الهزيمة لعاب شياطين لبنان وأبالسته، فيرفعون الستارة بعد ثماني سنوات ليؤدوا مسرحية الموت العبثي الفارغ. تشتعل بينهم حرب ضروس لا تزال ذيولها ماثلة على أرض الوطن وفي نفوس شعبه وحكامه.

ما عساي أقول بعد في كامل مروة؟ لا شيء لديّ غير معروف أذيعه عن الرجل وسيرة كفاحه. هل أقول إنه حبّب إليَّ الصحافة، أو علّمني الصحافة؟ أعود إلى حافظة السنين، كمَن يدير فيلم حياته من جديد وأتساءل ما إذا كانت مقالات الأمس التي كتبها كامل مروة والتي كنت أقرأها لوالدي، قد أوقدت في نفسي، ومن حيث لا أدري، جذوة التعلق بالحبر والورق. الحق أنني لا أدري، لكن الشيء المؤكد أنه لو لم يأت إلى الدنيا رجل اسمه كامل مروة، لما ظهرت إلى النور صحيفة اسمها “الحياة”، ولما أمضيت سنوات من عمري في مكاتبها في لندن، ولما تعرفت فيها إلى صحافيين وكتّاب صاروا بمنزلة أخوة وأصدقاء. الشيء الآخر المؤكد، الذي لا تشوبه شائبة، كما نقول في العربية الفصيحة، هو أن ما قرأته في المعرض عن كامل مروة وما شاهدته من صور، قد أوجد في نفسي “السبب العاطفي” الذي جعلني أدوّن بحزن، هذا الذي دوّنته على الورق.
رؤوف قبيسي
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).