أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | “كأن كل شيء على ما يرام” لسعدالله مقصود شعره يغمر الصفحات ببداهةٍ تجترح حياةً من الموت
“كأن كل شيء على ما يرام” لسعدالله مقصود شعره يغمر الصفحات ببداهةٍ تجترح حياةً من الموت
كتاب - "كأن كل شيء على ما يرام"

“كأن كل شيء على ما يرام” لسعدالله مقصود شعره يغمر الصفحات ببداهةٍ تجترح حياةً من الموت

ليست هي الأوجاع، ولا هو السرطان، ولا الخراب الوجودي، ولا أيضاً الحرب والموت، ما يستثير الشعر في تجربة الشاعر السوري سعدالله مقصود، وديوانه الجميل “كأن كل شيء على ما يرام”، الصادر بالعربية والفرنسية (دار أرواد للطباعة والنشر والتوزيع، طرطوس)، بل هو الشعر نفسه يطلّ من الثقوب والنوافذ ليشيع هواءه ودماءه في شرايين الكلمات ويمنحها قدرةً على استشعار الانوجاد والمقاومة والتألق.

بهذا الإحساس قرأتُ الديوان الذي يتمسك بالهواء كمن يتعلّق بغصنٍ مخلوع كي يوهم نفسه بأن معانيه لن تتساقط كتشلّق أشباح الموت وتجمّعها في القعر التراجيدي للحياة السورية. ببساطة ماحقة، يكتب سعدالله مقصود حياته وحياة الآخرين، وحياة سوريا، مثلما يكتب رائحة النهايات التي تفوح في الأرجاء فتكاد تكون العطر المأسوي الوحيد الموعود بالبقاء. بساطته تنوب عن القول. يكفيه أنه ينزف لكي يفهم القارئ كل شيء. يكفيه أنه يرى، وأنه يفرش يأسه على مائدة الصفحات، لكي يمتلئ القارئ بالشعر. ليس من اجتهاد مصطنع في “السرد”، حتى لأفترض أن سعدالله مقصود يكتب مثلما تلتقط عين الكاميرا السينمائية الحشرجات. بصمتٍ مؤلم، وبدون صخب، وبلا بهرجات، “يروي” الشاعر موته وموت العالم. لا بكاء. لا عواطف. لا رثاء. ولا تفجع. بل هي الكأس تنزّ وتنضح بعد امتلائها، فتغمر مياهها الكلمات، وتجعلها رطبةً كالثرى الذي يحتضن جثث الموتى والقتلى، حاشداً لها دموعاً لا تنهمر ولا يُسمَع لها حفيفٌ ولا هسيس.
“لم يكن لدينا أمل. منذ دهر توقفنا عن التفكير في الجنة”، “كنا نحيا بالشرّ، نبتسم قبل الطعنة وبعدها ونجهّز النصل من جديد” (صفحة 27). بهذه الطريقة يكتب سعدالله مقصود. فهو لا يتقصد الإثارة وحشد الغريب من الكلام. لكأنه كاتب حيادي، يكتفي بوصف الحال، من دون أن يملي مشاعره ومشاعر الأهل والأصدقاء والناس. ذلك ليس سببه البرودة، وعدم التورّط، بل إيمانه بأن الشعر لا يحتاج إلى عويل، وبأنه لا بدّ من استحضار الكثافات المقيمة في الطبقات الداخلية للكلمات، لجعل البساطة ذات كفاية شعرية. لا أزال أعتقد أن هذا النوع من البساطة يمثل بعضاً من جوهر الشعر. المهم أن يعرف الشاعر كيف يصل إلى ذلك الجوهر من دون أن يستعرض عضلاتٍ ليست شعرية على الإطلاق. ثمة بداهة في الاجتراح الشعري تشبه بداهة الشروق أو بداهة الغروب، بل بداهة النبع. مثل هذه البداهة تحرّر الكلمات من نثرها البديهي، وتملأه بالنسغ الشعري، وتفرش له جسد الكلمات، وتمنحه روحها. “جثثنا كانت مقلية حتى منتصفها بزيت الهلع. والنصف الحيّ يراقب”. أكاد أشعر وأنا أستعين بهذه الجملة، أن الشاعر يخترع معاني موازية للرعب والحرب والقتل والخوف والذعر والإحساس بالموت. وإذ يخترع هذه المعاني، ينطلق بها إلى أمكنة بعيدة، أمكنة تشبه المرمى الذي لا يصل إليه البصر، بل يتكهّنه، ويتصوّره، مفترضاً أن ثمة “حقيقة” رؤيوية لا بدّ من امتلاكها والولوج إليها بغير الأدوات المتاحة للجميع.
لا أتردد في القول إن من يكتب بهذه الطريقة لا بدّ أن يكون شاعراً جارحاً، شعريته قاسية ورقيقة، وهي في اجتماع نقائض القسوة والرقة، تتمكن من كهربة البساطة وإضطرام الحرائق فيها. لا يحتاج سعدالله مقصود إلى شهادة من أحد. يكفيه أنه ينادي أحداً ليتقاسم وإياه “الضوء الأنيق الذي تنتظره عتمتنا (صفحة 31)، مثلما يكفيه قوله: “ابتسامتكَ تخبرني أن لا أحد في البيت، أن لا بيت، أن لا أحد ينتظر هناك” (صفحة 29).
يعزّ على الشاعر أن يخلص إلى القول: “لأنه كان صغيراً علينا كغرفة نوم في فندق رخيص، كنا ندوس على قلوب بعضنا ليذهب كلٌّ إلى زاويته ويعاشر بصمتٍ حشراته. كنا نهرس رؤوسنا ونمدّها من النوافذ الضيقة لنلتقط الهواء كخطيئة نقذفها في ما بعد سمّاً في وجوه بعضنا البعض”. يعزّ عليه أننا “كنا نريد عدة سنتيمترات لنمدّ أرجلنا قليلاً، وعندما فشلنا لم يكن قد بقي لدينا ما نعطيه. كانت جثثنا هي الحل الوحيد، ملأنا بها المكان” (ص 28). فإذا كانت الجثث تملأ المكان، فإن شعره يملأ صفحات الديوان الضئيل كحياته الضئيلة، لكن المغمورة بما يضيء العتمة بعد انتهاء الضوء.
عقل العويط
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).