أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | مي منسّى نسمة على خط التّماسّ بين الواقع والخيال: لا أحلم… لا أنتظر… لا أتأمل!
مي منسّى نسمة على خط التّماسّ بين الواقع والخيال: لا أحلم… لا أنتظر… لا أتأمل!
مي منسى

مي منسّى نسمة على خط التّماسّ بين الواقع والخيال: لا أحلم… لا أنتظر… لا أتأمل!

عندما تفتح مي منسّى كتاب العمر، يرتسم أمامك حبر ينساب متعرجا بين جبال ووديان، بين عمق وارتفاع، بين واقع وخيال. حبر يرسم حكايات صراع بين جميع المتناقضات، وقصص تجارب من حلو ومرّ، ورواية تختصر كل الروايات…
ابنة بشري رأت النور في العام 1939، أحبت اللغة الفرنسية وتخصصت بآدابها، دخلت معترك العمل الإعلامي عام 1959 من بوابة التلفزيون، قبل أن تنتقل الى الصحافة المكتوبة عام 1969 مراسلة في صحيفة “النهار”، حيث ما زالت تمارس المهنة ناقدة فذّة في شؤون الموسيقى والأدب والفن على أنواعه. ومن الصحيفة الى الكتاب، قادها القلم في أواخر تسعينات القرن الماضي، من الخبر الى الرواية. ولولا الخبر لما كانت القصة، ولولا أهوال الحرب، لما كان الإلهام والخيال. ولذلك تؤكد أنّها لم تكن كاتبة لو لم تكن صحافية رأت واختبرت وعاشت هول الحرب والمآسي الإنسانية. “الصحيفة تنتهي في سلة المهملات، أمّا الكتاب فيبقى”، تقول، وكان لا بدّ من الكتاب حافظا للذاكرة من الضياع، وعبرة للأجيال المقبلة.
لم تختر مهنة الصحافة أو الكتابة ولكنّ “يدا خفيّة وضعتها على هذا الطريق، وهي اليد نفسها التي تعلّمنا أن ندخل صراع البقاء، صراع الحياة.”
لماذا؟
تكتب مي منسّى “كي لا تنسى… كي تبقى حيّة، كي تتنفّس، كي تسكر من خمر الحبر…”، تكتب من الواقع الصعب رسالة الى الخيال، فيبرق إليها بسرعة، مستعجلا الردّ، تلاقيه هي على “خطّ التّماسّ” بين الحقيقة الموجعة والوهم الجميل، فتولد رواياتها بجذور ضاربة عميقا في الأرض وأغصان محلّقة نحو السماء، وبين الأرض والسماء ظلّ هو ظلّها يفيّي على كل القصص، من “أوراق من دفاتر شجرة الرمّان” و”المشهد الأخير” و”ماكنة الخياطة”، الى “أوراق من دفاتر سجين” و”أنتعل الغبار وأمشي” والساعة الرملية” و”حين يشقّ الفجر قميصه” و”تماثيل مصدّعة”، وصولا الى “لمّا كنت” “الروايتين الجديدتين الموجودتين الآن قيد الطبع. uell est mon nomو”
واحدة من الروايتين رفضت دار نشر فرنسية نشرها، “لأنها تحتوي على الكثير من المشاعر والانفعالات، ولا تتماشى بالتالي مع سياسة الدار!” رفض قابلته منسّى بضحكة وتعليق: زمن المشاعر والأحاسيس ولّى… سأطبعها في لبنان.
لا تسكن مي منسّى بيتا وحديقة في أدونيس، بل على مساحة جريدة أو بين دفّتيّ كتاب. تتنقّل في أماكن رواياتها من دون أن تكون دائما بطلتها، تسكنها كظلّ، كفكرة، كروح ترفرف على الأحداث، ففي كلّ قصة بعض من معاناة اختبرتها هي، أو لمستها في اختبارات الآخرين. “الشّغب” في البيت الذي تربّت فيه على وجع شقيقها من مرضه النفسي يضجّ في السطور، تماما كما يضجّ هدير المدافع الذي صمّ آذان اللبنانيين، الانهيارات والتصدعات النفسية التي عاشتها في منزلي الأهل والزوج السابق، ترتسم لوحات معلّقة على جدران الكلمات، تماما كما ترتسم الأبنية المعلّقة، المتأرجحة بين النزاع والإنهيار خلال الحروب. أصوات ومناظر تسكن رواياتها، فتحوّلها الى مشاهد لمسرحيات متنوّعة تعرض على مسرح واحد: مسرح الحياة. ومن مسرح الواقع الأليم تهرب على متن الخيال الى الأعلى، الى فرح “العيد”، حيث ترتدي “فستان العرس”، فأوقات الكتابة لحظات عرس خيالي جميل، لا بدّ للأسف أن ينتهي، لتعود وتسقط على أرض الواقع سقطة موجعة ولكنها ضرورية، لتلمّس وجع آخر تهرب منه… لتكتب عنه.
“روح قدسها” الذي يساعدها على الكتابة اسمه “أنطوان” شاهدته في رؤيا في غرفة نومها، “لباسه فقير ولكن حضوره غنيّ”، يسكب عليها “المواهب”، عندما يجفّ الحبر أو يتمرّد الورق…
الصليب وباقة الأزهار
وبالرغم من أنّ الألم يظلّل رواياتها،إلاّ أنها ترفض اعتباره ضروريا للكتابة، ولكنّها في المقابل تهوى أن “تشرب حزن الآخر”، لأنها بكل بساطة تحب ذلك الآخر، تذهب اليه بلا تكليف ولا شروط، لاتعرف إلاّ أن تحب حتى الذي آذاها. المحبة عندها عفوية، طبيعية، كمحبة المسيح الذي تراه القدوة بالرغم من أنها “تلومه”، وتسأله دائما: “لماذا عليّ أن أحمل الصليب لآتي إليك؟ لماذا لا أستطيع أن آتي إليك حاملة وردة جميلة أو باقة أزهار؟! لماذا يرتبط طريقك دائما بالألم والعذاب؟ لماذا كتب على المسيحي أن يعيش هذه التراجيديا دائما…؟” الجواب لم تجده و”لا يهمّ”، كما تقول، لأنه لن يغيّر شيئا في المحبة…
الله تراه في الطبيعة أكثر مما تراه في الكنيسة، لأنه لا يسكن الحجر بل وسع الكون، تراه في هدوء الطبيعة وسكونها، في توالي الفصول وثباتها، في جمالها الكليّ وبهائها. تراه أيضا في الإنسان ولذلك تحبه في الإنسان، وبخاصة الإنسان المحتاج، مهما كان نوع حاجاته، تعطيه مما عندها من عطاء وفرح وتأخذ منه معاناته، كما تقول قريبة لها، وتضيف “مي إنسانة مجبولة بالمحبة، تزرع الفرح حيثما حلّت، بالرغم من أنها تألّمت كثيرا…” وتتفاجأ منسّى فتردّ: “أنا هكذا فعلا؟” وتضيف كمن يعتذر: “لا أقصد أن أكون ما أنا عليه أو أن أفعل ما أفعله، لا أعرف لماذا…”
شيء آخر تقول إنها لا تعرفه: “لماذا يصيبنا في الحياة ما يصيبنا”؟ ولكنّها في المقابل، تعرف لماذا نولد ونعيش: لكي نصارع، فالحياة صراع مستمر مع الذات ومع كل الأشياء. أمّا لماذا نموت؟ فلأسباب كثيرة حسب “نوع” الموت! فموت الطفل أو الشابّ “فاجعة”، أمّا موت العجوز فهو “خلاص”. لا تخاف من “أنواع” الموت في ما يتعلّق بشخصها، ولكنها تخاف من موت الآخرين، لأنّ “الفقدان هو أبشع أنواع العذابات ولا يستطيع الإنسان أن يتعوّد عليه”. اختبرت منذ مدّة تجربة صحيّة بسقوطها وتعرّضها لكسور ودخولها في غيبوبة دامت ثلاثة أيام، زرعت في دماغها “منطقة ظلّ” وفي يدها اليمنى عجزا عن الحركة الطبيعية والكتابة تحدّته بتعلّم الكتابة باليد اليسرى قبل أن تتعافى منه، وإن بشكل جزئي، بهمّة طبيب في فرنسا. هذا الطبيب الذي قال لمّا عرف أنها صحافية وكاتبة:”سأفعل كل شيء لإنقاذ هذه اليد”… أيقنت منسّى من خلال هذه التجربة وبعد تلك الغيبوبة، أنّ الموت قد يكون أيضا للميت “انعتاق”، ولكنّه بالتأكيد وجع كبير لمحبيه. وهذا ما جعلها تقول في “ماكنة الخياطة”: “لا ينبغي للمرء أن يفوّت قطار موته، فالموت هو الحدّ الأقصى للذات أن تكتمل”. وعن الموت أيضا والحياة قالت في “أنتعل الغبار وأمشي”: “الحياة نشوة وسكر. الحقيقة هي الموت”.

تحب منسّى الناس ولكنها تفضّل الوحدة، وتقول إنها لا تحب أن تبقى لوحدها، بل “مع وحدها”، لأنها أفضل رفيق لنفسها وكتاباتها، ترى نفسها مصابة ب”التوحّد والإنطوائية” كبطلة إحدى رواياتيها الجديدتين، ولكن على المستوى الفكري. الثرثرة لا تعنيها، والفرح تجده في كتاب أو مقال أو مسرحية أو أمسية موسيقية، وخارج الإطار الثقافي تجد فرحها أيضا في عيون الأطفال وبخاصة الأحفاد، الذين تعيش من خلالهم طفولة جديدة بعيدة عن طفولة القلق والخوف التي عاشتها.
من كل تجربة تأخذ عبرة، ولكل خطأ هدف ربما يكون أسمى من الصحيح نفسه، تماما كما أخطأت يوما بطريق الذهاب الى أحد المسارح، ووجدت نفسها أمام مسرح آخر مقفل، ولكنها وجدت نفسها أيضا أمام رجل محتاج ينام تحت أحد الجسور، “رأت فيه يسوع” فساعدته، وأمام مراهق يصرخ طالبا أمّه الموجودة في سوريا والتي لا يعرف عنها شيئا، لم تستطع بعد أن تساعد المراهق، ولكنها بالتأكيد قاسمته الوجع الذي قد يظهر ربما في رواية جديدة…
تجارب
من تجاربها تعلّمت ألاّ تحلم، فالحلم في منزلها الطفولي كان “ممنوعا”، العزف والغناء اللذان عشقتهما، كانا ترفا ممنوعا في عائلة استطاعت فقط أن تؤمّن لأفرادها الحاجات الضرورية، وتعلّمت كذلك ألاّ تنتظر ولا تتأمّل، “لأنّ الانتظار نزاع والتأمّل خيبة”.
في الصحافة كما في الحياة، تحبّ منسّى كل ما هو جميل، فتشير الى القباحة من دون تجريح، وتعترف بأننا نعيش عصر الإنحطاط الثقافي والأخلاقي، فكم من الأعمال تسمّى فنيّة وهي لا تمتّ الى الفنّ بصلة، وكم من جوائز تكريم ذهبت الى من لا يستحقّها، فالمعايير الصحيحة والقيم الإنسانية تكاد تنقرض، في زمن المادّة والإباحيّة والضجيج…”
الصحافة تعيش اليوم زمن التطور، ولكنّه مجرّد تطور تكنولوجي وليس تطورا بالمعيار المهني الثقافي، وعبارتا “حبر على ورق” أو “رواية بقلم فلان” وما يشبههما، ستصبحان يوما مجرد أمثال شعبية “من أيام زمان”. ولكنّ الحنين الى الورق ورائحة الحبر يسكن حنايا روحها ولا يمكن أن يفارقها، لأنه حنين الى تاريخ وحقبة مضيئة لا يدرك معناها إلاّ من عايشها.
وإذا كانت الصحافة مرآة المجتمع، فنستطيع أن نتصوّر المشهد، تقول، “المجتمع مريض بالفساد واللاقيم، بالمادة والسلطة، الدولة مصابة بالعلل عينها، أمّا الوطن فهو سليم، لأنه في فكري جبال ووديان وأنهار وطبيعة ساحرة، ويا ليت للدولة أن ترتقي الى جمال الوطن، وتكون مظلّة حامية للناس لا أداة نهب وسرقة للحقوق…”
وإذا كان “الوطن” يقدّر عطاءات منسّى، من خلال حفلات تكريم على مستوى أهل الثقافة والعلم على غرار رفعها “اسما علما” على جدارية الجامعة الأنطونية العام الماضي، فإنّ “الدولة” تبدو غائبة، كما هي منذ أجيال، عن مسؤولية تكريمها رسميا كعلم من أعلام الثقافة والإنسانية…
ومن أمراض المجتمع الاستخفاف بالمرأة وبحقوقها القانونية، “ولكنّ المشكلة أبعد من ذلك”، تقول، ،فالقوانين الموجودة في أرقى دول العالم لم تستطع أن تحمي المرأة من تسلّط الرجل وأنانيته، فالرجل بتركيبته الجينية متسلّط وأناني ويرى أنه أهم من المرأة… أمّا مصيبة المرأة الكبرى فهي الرّحم، ذلك الرّحم الذي يعذّبها ويفجر أحاسيسها باستمرار، لأنها لا تستطيع أبدا أن تقطع حبل السرّة طوال حياتها… وهذه المعضلة لا يسهل حلها أبدا. ولذلك، تبقى المرأة الحرة هي المرأة التي تترك كل شيء وتعيش لوحدها…”
حرية مي منسّى ولدت ربما من الوحدة، ولكنّها بالتأكيد ذات مفهوم خاص بعيد عن الأنانية واللامسؤولية، فالحرية في قاموسها، هي كما عرّفتها في “الساعة الرملية”، “لا بدّ أن تساهم في جعل الإنسان جديرا بها، إذ تصنع منه مواطنا مسؤولا وناقدا، لا فوضويا متمردا”. أمّا وحدتها فليست بعدا عن الناس، بل نزولا عند رغبة الحبر فتقول: “حبر قلمي بات على يقين من نواياه، هذا الحبر الذي تلاعب بصيغة المفرد حتى صرنا نتخاطب، أنا مع أناي…”

لارا سعد مراد
مجلة اورا- العدد 3

عن ucip_Admin