أختر اللغة
الرئيسية | مقالات | مَن يحاكم الجماهير؟
مَن يحاكم الجماهير؟

مَن يحاكم الجماهير؟

كتب سمير عطالله في صحيفة النهار بتاريخ 16 شباط 2022

بعد الحرب العالمية الثانية أقيمت في مدينة نورينبيرغ الألمانية محاكمات خاصة لمجرمي الحرب. كم كان عددهم؟ ليس مهماً. مهما كان فقد كان قليلاً جداً وغير عادل. ولم يشمل أي حدٍّ أدنى من المسؤولين. لكنها كانت محاكمة رمزية لا بد منها، مثلما هي المحاكم الدولية في ما بعد. أما الحقيقة فإن الشعب الألماني برمّته كان مسؤولاً إلى حد بعيد. وقد يقال ان من غير العدل التعميم في الجريمة او الفضيلة، لكن المسؤولية الالمانية كانت شاملة الى حد اصبح التعميم مقبولاً لدى العالم اجمع. وساد اقتناع بأن أدولف هتلر لم يكن صنيعة أدولف هتلر، وإنما حالة من حالات العتِي البشري التي تمر بالجماهير عبر العصور، سواء كانت صناعية متقدمة كالألمان، أم بدائية.

في كل الحالات وفي كل العصور تنجو الجماهير من المحاكمة والمساءلة. وتحال مسائل الجنون والجهل وشهوة التدمير وحالات الشذوذ الفكري والعماء الإنساني، وتُنسب كلها الى افراد مثل هتلر أو موسوليني أو ستالين، بحيث يمكن للجماهير العودة الى حياتها الطبيعية وغسل اياديها وضمائرها من الذنوب. وللأسف لم يقم بديل من ذلك حتى الآن. فالمحاكم الدولية لا تزال تضع اللوم في الخراب الجماعي على افراد معيّنين، كما حدث في يوغوسلافيا أو في ليبيريا. وبقيت فظاعات مثل الجنجاويد في السودان، جرائم جماعية بلا مسؤولين وقتلة وجزّارين. ومن عادة أو طبيعة الجماهير، أنها تهلل من دون حساب، وتهتف من دون تساؤل، وتخرّب بلدانها وبلدان سواها، متّكلة على التقليد التاريخي، في إبقاء الجريمة الجماهيرية من دون أي عقاب.

وربما للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، تُطرح على الصعيد الوطني العام المسؤولية العامة في ما حدث للدولة وما يحدث للبلاد. يؤمن البعض بأن تغييراً جوهرياً سوف يتم من خلال الانتخابات، ويشكّك البعض الآخر في ارتخاء النفس امام صغاراتها في ساعات التغيير والمصير. وأحب ان انضم الى الفريق الأول للمرة الأولى، لأن الخيار الآخر خطير وكريه. وتوحي الظواهر ان الوعي بما حصل للبنان لا يزال معدوماً، وأن مستوى النقاش في المصير الأخير، ما يزال عند الهتاف والهتّافين. والفارق رهيب بين اهل الفكر وفكر الشارع. والأمل في تضييق الهوة بين الفريقين كالأمل في تغيُّر المحركات الجماهيرية التي ما زالت تصفّق لموت لبنان وهي مقتنعة تماماً بانها تصفّق لحياته.

في 150 عاماً من تاريخ المانيا قسمة عادلة بين شطرين: نصف كأفضل شعوب الأرض، ونصف آخر هتلر وغورينغ وغوبلز. ومن حسن حظ الكوكب أننا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية نعيش في زمن كونراد اديناور وفيلي برانت وهيلموت شميدت، وخصوصاً انغيلا ميركل. الشعوب مثل الأفراد حالات وأمزجة ومراحل. ومن الخطأ، أو من العبث، ان نمضي عن البحث في الحاضر عن إنسان الماضي. وإذا لم يُدرك فعلاً مدى الحالة التي نحن فيها، فلا أمل بشيء على الاطلاق، لا عبر الانتخابات ولا عبر غيرها، بل سوف تبقى الحقيقة الوحيدة الهتاف والهتّافين ومستويات الإثنين. الباحثون اليوم عن جمهورية فؤاد شهاب يغيب عنهم ان اللغة الجمهورية برمّتها قد تغيرت. وقد يبدو مضحكاً اليوم الحديث عن مشروع ايكوشار والتنظيم المدني فيما البلد مطمور بالأوساخ والأوبئة والمشاهد الكريهة. أو مثلاً الحديث عن دعوة “الأب بيار” الى بيروت لكي يعلمنا العناية بالفقراء، فيما يقف 70% من اللبنانيين على حافة الفقر، او في قعره، مًعرّضين لجميع انواع اذلاله ومذلّاته وإهاناته.

هل نحن قادرون من خلال الانتخابات المقبلة على العودة الى شيء من فرح وبهجة ورقيّ 17 تشرين، أم أننا سوف ننهزم مرة أخرى امام نداءات اهل الكهف ودعاة الخراب؟ في كل الحالات لم يعد امامنا الكثير من التَّرَف لكي نُلقي بكل شيء على الآخرين. فالآخرون هم نحن ايضاً. وهم الأكثر سوءاً ورداءة بسبب الخفّة التي يتعاملون بها مع مصائر الناس وكرامة البلد ومصيره.

لن يكون هناك تغيير إذا لم يُعد اللبنانيون النظر في نظامهم القيَمي وليس نظامهم السياسي. ولن يكون هناك ادنى تغيير ما دامت مقاييسهم في التمثيل السياسي والوطني والاخلاقي، هي تلك التي ادّت بهم الى هذا الحضيض وهذا التخلي الجماعي عن فكرة الدولة والاستسلام لكل مبادىء الانهيار والانحطاط، في التعامل مع كل شأن عام على انه تملّك خاص وحظوة فردية.

المشكلة كانت ولاتزال في الجماهير التي تُعطى زوراً، أوعنوة، اسم الشعب وهو ما لا ينطبق على شركاء الصفقات وفعلة النهب وملتزمي الفساد والظلام بالجملة والمفرق. فالقضايا المطروحة لا توحي اطلاقاً أن اللبناني يعي ما أُوصِل اليه. فهو لا يزال، مثلاً، يتحدث بكل جديّة عن”موازنة” وكأن الدولة قائمة. وهو يناقش وظائف الديبلوماسيين مع ان نصف العالم يرفض مصافحتنا، وما نزال نستخدم التعابير نفسها في تسمية الحقائب الوزارية مع ان اكثرها فقد صفاته ووظائفه. وبدل البحث عن علاج لهذا الانهيار الكلي، فإننا نخرق صمت الكنائس كي نصفق له. ويحدث ذلك على مسافة امتار من مرفأ بيروت، حيث لا يزال الخراب شاهداً على خراب المدينة الثامن.

يقف الهتّافون فوق البيوت المهدمة والنعوش المفتوحة واحداق الامهات والعرائس المرمَّلة ويحتفلون. طبعاً هذا ليس شعب لبنان العظيم. لكن هذه عيّنة منه. العيّنة التي تقف في مار مارون ولا ترى او تسمع على 200 متر، ماذا حدث لبيروت، وإلى ماذا صار لبنان، وأين صارت دولته.

تلك حصانة الجماهير. وتلك وظيفتها: أن تهتف. فهي لا تَسأل ولا تحاسب. هي لا تدرك ان هتاف مناسبات الافراح، لا يليق فيما الناس قبالتها تضع الاكاليل وتبكي. كان ذلك نذيراً سيئاً للانتخابات وحلم التغيير والعودة الى الوعي. لكننا لا نريد، برغم كل ذلك، أن نفقد الأمل بشباب الرؤية والبصيرة والوعي. ما نزال نأمل بأن شعب لبنان العظيم سوف يكفيه ما فعل ببلده ويعطي مكانه الآن لشباب لبنان الواعي والنبيل والصادق. في كل بقعة شواهد على ما احدثته الرعونات والصغارات وتفاهة المكائد وحقارة الشر والفساد. الآن حان دور الشبان. لا تتركوهم يسافرون. فليبقوا هنا. بحيويتهم وأريحيتهم وحيائهم الوطني والقومي والإنساني، من اجل ان يعيدوا بناء ما هدمتم وزرع ما احرقتم وسقي ما يبَّسْتُم.

نريدهم ان يبنوا لنا تاريخاً جديداً ليس فيه عظمة وحروب ودمار وحقد وكره ومقت. بلد لمرة، على قدّنا، فيه مسرّة ومحبة، خال من السرقات، والنهب، والغطرسة. بلد كنائسه ومساجده للمصلّين والمؤمنين، وابناؤه يهتفون له.

كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه

عن ucip_Admin