أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | هذه البيروت التي أعود إليها لأكتشفها من جديد بقلم عقل العويط
هذه البيروت التي أعود إليها لأكتشفها من جديد بقلم عقل العويط
بيروت

هذه البيروت التي أعود إليها لأكتشفها من جديد بقلم عقل العويط

ماذا تعني لي بيروت، أنا الذي جئتُها طالباً جامعيّاً في العام 1971 – 1972، ثمّ مرغماً تركتُ سكني فيها في عزّ الحرب، لأعود إليها الآن عن سابق تصوّرٍ وتصميم، متّخذاً إيّاها “مكاناً” للإقامة؟ المدينة التي عاشت آنذاك، في عزّ كوزموبوليتيّتها، وزهوها، وأناقتها، ونزقها، وثقافتها، وطموحها، واعتزازها بذاتها، كانت قد بلغت في الآن نفسه حال الامتلاء الرهيب بثورات الثقافة والحداثة والمجتمع والشباب والسياسة، وتناقضات الأفكار والمطامح والمطامع، فصارت الموئل العذب للهواجس والأحلام والرغبات. ومثلما كان يقصدها الشعراء والفنّانون والأحرار من الأرياف والأصقاع الداخليّة، ومن بعيدٍ، ومن قريب، كنتُ قد وصلتُ إليها، مغموراً بهذه المعاني، والصُوَر، والحالات، معزَّزاً بما يصطخب في كيان الفتى الثائر الذي لم يكن قد تجاوز، بعد، الثامنة عشرة من عمره. أيُّ بيروت هذه التي أعود إليها الآن؟

على طريقة مَن يصل إلى مرفأ، وصلتُ إلى بيروت. كان الشوق إليها شبيهاً بشوق الفتيان إلى اللقاء الأوّل. تماماً، على غرار الشوق إلى قبلةٍ أولى، مسروقة، أو ممانِعة. لا بدّ من أنّ دفق الحلم كان يضطلع بدورٍ حاسم في الإفراج عن هذا الإحساس. في مقدور المرء الفتى، وخصوصاً إذا كان قادماً من أمكنةٍ ريفيّةٍ، بسيطة، وبريئة، أن يستشعر في هذه الملامسة ما يستشعره المراهق من انتشاءٍ يرافق القذف الأوّل، ويهزّ كيانه هزّاً وجوديّاً. يمكنني أن أتذكّر هذا الشعور، بل يمكنني أن أُستَدرَج إليه الآن بكياني كلّه، كما لو أنّ العمر الذي يفصلني عن تلك اللحظة يمّحي امّحاء البرق الخاطف. وكما لو أنّي الآن أرتدي أشواق ذلك الفتى الذي كنتُه في أحد الأيّام، وأكاد أقول: كما لو أنّي أرتدي فحولته.
اكتشفتُ في بيروت المكان “الثاني”، مثلما اكتشفتُ ذاتي “الثانية”. الذات التي تولد للتوّ، كما لو أنّها لم تولد من قبل. ما من شيءٍ عرفْتُه في حياتي النائية عن المركز سابقاً، يشبه انتقالي إلى بيروت. أنا الذي وُلدتُ في مسقطي بزيزا، وعشتُ طفولتي ومراهقتي في البلدة الساحلية، شكّا، التي انتقلتْ إليها العائلةُ بحكم عمل الوالد، وطلباً للتعلّم، وتابعتُ دروسي الثانويّة في عاصمتنا الشماليّة طرابلس، اكتشفتُ في بيروت العالمَ الذي أشتهيه، والحياة التي أحلم بعيشها.
جسماً جديداً اتّخذتُ، وروحاً، كاللذَين ينسى المرء أنّه كان له جسمٌ سابقٌ، وروحٌ سابقة. لا بدّ من أني لم أنسَ، ولم أمحُ. هذا أكيد للغاية. لكنّي أقول ذلك تحديداً، لكوني لا أستطيع أن أصف حال الاكتشاف والامتلاء والبحبوحة والغنى، طاوياً الليل بالنهار، مزهوّاً بتمثيل الطلاّب، وبقيادة التظاهرات، وإلقاء الخطب، وملامسة ليل الصبايا والليل والأرصفة والمقاهي ومقاعد الدراسة، وأرواح الأساتذة والشعراء والكلمات.
تركتُ بيروت في عزّ الحرب، في أوّل الثمانينات، لاجئاً إلى منزل شقيقتي في جونيه، حيث كنتُ أدرّس الأدب العربيّ في إحدى مدارس بناتها. ثمّ تملّكتُ شقّةً مطلّة على البحر، في زوق مصبح، بمنطقة يسوع الملك، وبقيت مقيماً هناك إلى أن توصّلتُ قبل فترة إلى اقتناعٍ مفاده أنّ العيش قد حقّق مبتغاه في ذلك المكان. صرتُ أشعر بأنّ أيامي هناك زائدة، وإضافيّة، وبأنّ حياتي تطالبني بالتغيير. رحتُ أخاطب نفسي مستنكراً سكوتي على الزحمة اليوميّة المهينة، وهازئاً بارتضائي لها، كما لو أنّها قَدَر. أنا الذي أغرمتُ بذلك المكان المطلّ على البحر، بات من المستحيلات الجسديّة والنفسيّة والعقليّة، أن أواصل حياتي فيه، ليس لعلّةٍ في المكان، بل لبلوغه آية اكتماله فيَّ. قلتُ في ذاتي لا بدّ من أن أكتشف “مكاناً” جديداً، “آخر”. لا بدّ من أن “أعود” إلى بيروت، لأُولد فيها مرّةً ثانيةً. كما لو أنّي لم أولد فيها من قبل.
ها أنا في بيروت، في الأشرفيّة التي لم أسكنها يوماً. الغاية من ذلك أن أعيش هذه المدينة، كما لم أعشها. فأنا أريد أن أتعرّف إليها الآن، تعرّفاً يوميّاً، حسّويّاً، غير غافلٍ عن أيّ ملمحٍ من ملامحها، وأيِّ معنىً من معانيها. أريد أن أقارن حالي، بين تعرّفي الأوّل إليها، واحتكاكي التفصيليّ الجديد بها، بفاصل خمسةٍ وثلاثين عاماً. مَن أكون أنا الآن، ومَن تكون هي؟
بيروتي الأولى تلك، ماتت في الواقع. ما بقي منها هو مقبرةُ ذكرياتٍ وجوديّة، مكانيّة، حياتيّة، إنسانويّة، وثقافيّة، ليس إلاّ، محفوظة في الطبقات الجريحة والخلاّقة من حياتي السابقة.
أجدني الآن أريد أن أُمضي يومي في بيروت، أن أسهر في بيروت، أن أنام في بيروت، أن أستيقظ في بيروت، أن أضجر في بيروت، أن أحلم في بيروت، أن أتسكّع في بيروت، هذه التي لم أتركها يوماً. لقد بقيتُ حتى في أحلك الأيام حرباً وذبحاً وتهجيراً، ألوذ بها على طريقة مَن يلوذ بعقله، أو بمرآته. كنتُ أقصدها يوميّاً، كمَن يقصد هواءً يقيم في لاوعيه. كان الشغل ذريعةً، إلاّ أنّي كنتُ أواظب حتى في أيّام العطل، وفترات الابتعاد الطوعيّ أو القسريّ، على المجيء إليها، لا لسببٍ إلاّ لسبب استشعار “المكان” الذي كان يستحيل العثور عليه في أيِّ “مكانٍ” آخر.
لقد سقط ذلك “المكان”، كحالة، مثلما سقط كحيّزٍ وجوديّ، مجتمعيّ، وجغرافيّ. أريد أن أعرف الآن – بالملامسة والاحتكاك والمحاورة والخبرة المباشرة – إلى أيِّ حدٍّ يمكنني أن “أتحدّى” هذه النظريّة، نظريّة السقوط. ماتت فيَّ أشياء كثيرة، لكنّي لم أمت، أنا الذي ماتت بيروته الأولى. فتلك التي ليس لها بديل، ولا يمكن استعادتها “بالقوّة الفعليّة”، بل “بالقوّة الفلسفيّة” فحسب، ها أنا فيها بعد اكتمال العمر. أريد أن أبدأها من جديد. كما لو كنتُ أبدأ حياتي، الآن، للتوّ، في هذه اللحظة. كيف يستطيع امرؤٌ كليانيٌّ مثلي، أن يبدأ من جديد؟ أنا ذاتي، لا أعرف جواباً، سوى أنّي أحمل كتاباً في يدي، لا على طريقة المثقّف الاستعرائيّ، والاستعراضيّ، بل على طريقة مَن يبحث عن حمايةٍ معنويّة له في “مكانٍ” غريب، يرغب في الاحتكاك به، وإقامة أوثق العلاقات معه. بيروت اللامكان، بيروت الأبراج والناطحات، بيروت الكيتش، بيروت الترييف، بيروت وسائل التواصل الاجتماعيّ، والحياة الافتراضيّة، بيروت آخر الزمان، وآخر المكان، هل أستطيع أن أعثر على “مكانٍ” لي فيها؟ هل يستطيع كائنٌ “غريب” مثلي أن يعثر على ألفة غربته فيها؟
أدخل إلى المبنى الذي سأقيم فيه، بالخَفَر نفسه الذي رافقني خمسةً وثلاثين عاماً في مكاني الكسروانيّ السابق، باحثاً عن ألفةٍ قد لا يعثر شاعرٌ عليها إلاّ في اغتراب القصيدة. سأختبر هذا المكان. سأعطيه مفتاحاً يفتح به الباب إلى رأسي. هنا، في هذا المطرح بالذات، سأفتح سجلّاً بحياةٍ جديدة، بأيّامٍ جديدة، وبلغةٍ جديدة. لكنّي أحمل معي خراباً مدوّياً بدون صوت، هو الخراب الذي أصاب بيروت السابقة، بيروت الزمان وبيروت المكان، بيروت الشاعرة، بيروت الندوات والمنابر والصحف والمجلاّت والحوارات الصاخبة، أي بيروت “المكان”. خراب هذا “المكان” لا تزال بصماته تئنّ في نزيف لاوعيي الشخصيّ. فبأيِّ “مكانٍ” أواجه الخراب السابق لألملم نثار خرابه، ولأشيّده؟ بأيِّ جسدٍ؟ وبأيِّ لغة؟
لا أغفل عن الاعتراف. ولا أتناساه. فأنا أحبّ بيروت حبّاً مُلازماً للكره، أو مفضياً إليه. أحبّ هذه البيروت الحبّ الذي يُشعِرني بهول المسؤوليّة المترتّبة عليَّ حيالها. وأنا أكره هذه البيروت نفسها، إلى حدّ الشعور بأنّي مسؤولٌ عمّا أصابها، وعمّا أصابني من جرّائها. لا يفارقني هذا الإحساس بالذنب. بل يعذّبني تعذيباً داخليّاً، ويقضّني قضّاً مضنياً، لا أجد سبيلاً إلى التحرّر منه. أكره بيروت، لأنّ أحلامي وقيمي تعرّضت للخيانة المهيبة، ولأنّي أنا شخصيّاً تعرّضتُ وأتعرّض يوميّاً على يدها لمثل هذه الخيانة. ولأجل هذا التعرّض المأسويّ المفجع، الذي لا نهاية له، وليس به دويٌّ صائتٌ، وليس له صورة، أكرهها الكره الذي يكره به المطعونُ طاعنَه بغرامه، أو بكرامته. وإذا كنتُ أكره بيروت، فكم بالأحرى أكره ذاتي، وأشعر بالذنب حيالها. يمكنني أن أسترسل في الكلام على الأحلام المغدورة، والأعمار المغدورة، على طريقة النزف الذي يعتري الينبوع، ولا يمكن اعتراض سبيله. ليس في مقدورِ أيِّ قوّةٍ أن تلغي عندي هذا الشعور إلاّ بالاستئصال. مَن في مقدوره أن يستأصل هذا الموضع من الرأس الذي تقيم فيه المشاعر والتجارب والاختبارات والذكريات، جاعلاً منه أرضاً محروقة؟! مَن يمكنه أن يجترح هذا الاستئصال؟ من يمكنه أن يفعل بي هذا الفعل؟! لا أحد. ولا شيء.
يعزّ عليَّ أن أكره بيروت هذه الكره الوجوديّ والعاطفيّ. يعزّ عليَّ أن أكره ذاتي هذا الكره الكيانيَّ كلّه. هو الكره الذي يعني الحبّ غير القابل للاندمال. مَن يداوي جرحي هذا؟! مَن يشفيه؟! لا أحد. ولا شيء.
لكنّي على الرغم من كلّ شي، أبدأ من جديد، في هذا “المكان” البيروتيّ الجديد. أعينيني أيّتها المدينة – اللغة، وسدّدي عيشي، وخُطايَ. فهذه المرّة، سأعيش هنا، وسأكتب هنا، وأنا نائم، فاتحاً رأسي بثقوبه كلّها، من أجل أن يسيل، كما لو أنّ سماءً لم تنزف من قبل.
عقل العويط
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).