أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | هيكل وغالي: جمعتهما الحياة ولم يفرقهما الموت
هيكل وغالي: جمعتهما الحياة ولم يفرقهما الموت
الصحفي محمد حسنين هيكل

هيكل وغالي: جمعتهما الحياة ولم يفرقهما الموت

شاء القدر أن ترحل من دنيانا قامة سياسية ديبلوماسية رفيعة هي الدكتور بطرس بطرس غالي، وأن يرحل في اليوم التالي له مباشرة قامة صحافية وفكرية عالية هي الأستاذ محمد حسنين هيكل.

من المثير أنه جمعت بينهما الحياة حين عمل الأستاذ الأكاديمي في الصحافة في فترة من حياته حين كلفه الأستاذ هيكل بتأسيس مجلة “الأهرام الاقتصادي” ومجلة “السياسة الدولية”، وفي الوقت نفسه يتحول الصحافي المرموق إلى مؤرخ ومفكر استراتيجي عظيم القدر في النصف الثاني من حياته المديدة حين أخرج كتبه الشهيرة التي أرخ فيها للمعارك السياسية العربية الكبرى وللأحداث السياسية المصرية البارزة.
وتبدو حياة كل منهما -والتي كانت سيرة استثنائية بكل المقاييس- وكأن الدكتور بطرس كانت لديه نزعة صحافية كامنة في حين أن الأستاذ هيكل الصحافي المرموق -والذي كان يحب أن يسمى “الجورنالجي” اعتزازاً بمهنته التي مارسها باقتدار طوال حياته- بدا كما لو انه كانت لديه نزعة أكاديمية مستترة كشفت عن نفسها بوضوح بارز حين أخرج كتبه الأساسية -وخصوصا بعد أن ترك رئاسة تحرير “الأهرام”- وبذلك حول نفسه إلى مؤرخ لأهم الأحداث العالمية والعربية والسياسية وفقا للتقاليد الأكاديمية السائدة في علم التاريخ.
ومما لا شك فيه أن النزعة الأكاديمية التي كانت كامنة لدى الأستاذ هيكل هي التي دفعت به إلى تأسيس “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية” لكي يقدم بحوثا علمية موضوعية عن التحولات العالمية والسياسات العربية والمواقف المصرية. بعبارة أخرى أراد الأستاذ أن يؤسس لخطاب استراتيجي علمي لأول مرة في تاريخ الفكر العربي- كجزء أساسي من رسالة جريدة “الأهرام”- والتي حولها بعد أن تولى رئاسة تحريرها إلى مصدر للتحليلات السياسية الرصينة من ناحية، ومنبراً للتنوير الثقافي من ناحية أخرى.
ومن بين الأسباب التي دعت الأستاذ إلى تأسيس مركز الدراسات بـ”الأهرام” أنه أراد أن يستبدل الخطابات الإنشائية التي كانت سائدة قبل هزيمة حزيران 1967 في ما يتعلق بإسرائيل إلى خطابات علمية تقوم على التوثيق الدقيق والتحليل العلمي العميق.
ومما يؤكد هذا الاتجاه أحداث بارزة شاركت فيها فأدركت مدى عمق نزعته الأكاديمية في مجال معالجة الأحداث الدولية والعربية. فقد قدمت لمركز الدراسات السياسية بـ”الأهرام” عام 1968 بعد أن أنشأت فيه “وحدة لدراسة المجتمع الإسرائيلي” مقالا للنشر عن “التركيب الطبقي في المجتمع الإسرائيلي”. وكانت المقالة أكاديمية زاخرة بالمصطلحات العلمية وأسلوبها بالغ الصعوبة ويفتقر إلى الكتابة الصحافية السلسة التي يمكن أن تصل إلى جماهير القراء.
كنت وقتها خبيرا منتدبا من المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أفتقر إلى مهارات الكتابة الصحافية التي تتسم بالوضوح والقادرة على الوصول إلى عامة الناس. وقد أدركت إدارة المركز في هذا الوقت أنه يصعب نشر المقالة بأسلوبها المعقد، لذلك أعطى نصها لأحد الكتاب الصحافيين البارزين في “الأهرام” لإعادة صوغها. وفعل ذلك وأخرج منها مقالة رائعة احتفظت بالتحليل العلمي لمقالتي ولكن صيغت بأسلوب شيق بالفعل.
وقد سعدت بهذه الصيغة الجديدة واقترحت أن ينشر المقال بدون توقيع لأن الغرض كان هو التعريف بالتركيب الطبقي للمجتمع الإسرائيلي. وحين عرض الموضوع على الأستاذ هيكل رفض اقتراح المركز وأشار بنشر المقال الأصلي مع ذكر الصفة العلمية لكاتبها وكأنه أراد أن يؤسس لخطاب صحافي جديد في تناول المجتمع الإسرائيلي يعتمد على التحليلات العلمية حتى لو كان في ذلك صعوبة أسلوبية.
وفي غمار تعمقي في المجتمع الإسرائيلي أعددت دراسة موجزة بعنوان “قراءة سياسية لخريطة الشخصية الإسرائيلية” وقدمتها للمركز إلا أنه قيل لي بعد جمع المقالة أنها لن ننشر لضيق المساحة.
وقد اهتم الأستاذ فعلا بالموضوع وبعد أن قرأ المقال وجه بنشرها على حلقتين في يومين متوالين مع أنه لم يكن يرحب بنشر مقالات مسلسلة لكتاب “الأهرام”.
وتأكيدا للنزعة الأكاديمية التي كان يمتلكها كان يحضر كل الندوات العلمية التي ينظمها مركز الدراسات بـ”الأهرام” والتي كان يشارك فيها خبراء أجانب أو عرب يقدمون تحليلات منهجية جديدة للصراع العربي الإسرائيلي وبوجه خاص بتطبيق منهج “تحليل النظم” وهو منهج كان جديدا في تحليل العلاقات الدولية.
ولعل هذه النزعة الأكاديمية العميقة لدى الأستاذ هي التي أتاحت له في مؤلفاته المهمة المتعددة أن يمارس تحليل الثورات والأحداث الدولية الكبرى بمنهج علمي عميق، وبقدرة فائقة على استشراف المستقبل.
أما الدكتور بطرس غالي الأستاذ الأكاديمي الرفيع المقام والذي كان متخصصا في القانون الدولي والعلوم السياسية فقد مارس الصحافة العلمية باقتدار وبحس صحافي نادر. وقد تعاملت معه حين كان رئيسا لتحرير مجلة “السياسة الدولية” وكنت مسؤولاً عنها بعد تعيينه وزيرا للدولة، ولم يفقد اهتمامه أبدا بتتبع كل عدد كنا نصدره من المجلة ويبدي ملاحظاته النقدية الشكلية والموضوعية.
وتشاء الظروف أن يلعب الدكتور بطرس غالي دورا ديبلوماسيا بالغ الأهمية حين كان وزيرا للدولة للشؤون الخارجية. فقد أسس لعلاقات مصرية أفريقية على أعمق مستوى إدراكا منه للأهمية الاستراتيجية الكبرى لعلاقة مصر بأفريقيا، كما أنه لعب دورا حاسما في مفاوضات “كمب دايفيد” واستطاع الدفاع باقتدار عن المصالح الحيوية لجمهورية مصر العربية.
ويلفت النظر حقا أن كلا الرجلين الأستاذ هيكل والدكتور بطرس كانا يشتركان في سمات شخصية متشابهة. كانا يؤمنان أولا بالمنهج العلمي في معالجة الأمور سواء في مجال الصحافة أو في ميدان السياسة، كما كانا يؤمنان بالقدرة الفائقة لحيوية الشباب، ولذلك استطاعا فتح الأبواب واسعة وعريضة أمام الشباب الصحافيين من ناحية، وأمام الشباب الديبلوماسيين من ناحية أخرى. ولذلك تخرج من مدرسة هيكل الصحافية نجوم صحافية بارزة أتاح لهم الأستاذ العمل الصحافي تحت إشرافه في “الأهرام”. أما الدكتور بطرس بطرس غالي فقد أسس مدرسة ديبلوماسية متكاملة تخرج منها عشرات الديبلوماسيين الشباب الذين أصبحوا من بعد من أشهر السفراء الذين مثلوا مصر تمثيلا مشرفا حقا في كل المنظمات الدولية.
الأستاذ هيكل من ناحية والدكتور بطرس من ناحية أخرى كانا يؤمنان بأهمية العمل المنظم طوال الحياة. ولذلك لم يتوقف هيكل عن الإنتاج بعد تركه رئاسة تحرير “الأهرام” وتحول إلى مؤرخ عالمي مقتدر أصبحت كتبه مراجع أساسية، أما الدكتور بطرس غالي فقد تجاوز حدود وطنه بعدما أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة، واستطاع -نتيجة عمق خبراته وتنوعها- أن يلعب دورا تاريخيا في تحقيق السلام في العالم ونشر الديموقراطية والدفاع عن قضايا العالم الثالث والاهتمام بحقوق الإنسان بعدما أصبح رئيسا للمجلس القومي لحقوق الإنسان.
هيكل الصحافي المرموق وبطرس غالي الديبلوماسي الشهير قامتان مصريتان سامقتان جمعت بينهما الحياة ولم يفرق بينهما الموت!
السيد ياسين
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).