أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | الإتروريّون: حضارة مؤثّرة وأصول مجهولة بقلم د. ايلي مخول
الإتروريّون: حضارة مؤثّرة وأصول مجهولة بقلم د. ايلي مخول

الإتروريّون: حضارة مؤثّرة وأصول مجهولة بقلم د. ايلي مخول

في أيام ثورة تموز 1830 نشرت مجلة “Revue de Paris” حديثًا للشاعر بروسبير مِريميه وكان في السابعة والعشرين من عمره بعنوان: “الإناء الإتروري”. الوعاء المطلي بالرسوم المصنوع من الطين المشوي والذي يقول فيه هذا الشاعر الفرنسي أنه قطعة جميلة لا تزال مكشوفة على الملأ اشتراه شاب أثناء رحلة الى إيطاليا وقدمه لسيدة عريقة النسب. وقد تصدّرت الهدية الأثرية مدفأة بيتها الريفي الى أن قامت ربّة الدار دون تردّد بتحطيم الهدية الثمينة على الأرض لتبديد غيرة حبيبها التي لا موجب لها من المتبرّع صاحب الذوق الفني.

بالنسبة الى مريميه كان الأمر أبعد من مجرّد مزاج أن يجعل من تحفة فنية قديمة الموضوع الرئيس لواحدة من قصصه الغرامية التي عاشها بوله شديد. كان الشاعر من أكثر مثقفي بلاط الملك لوي فيليب الأول. فبجانب مواضيع علم اللغات انصبّ اهتمامه على مسائل تاريخ الفن اتي تتبعها أثناء رحلاته الطويلة وعمله كمفتّش عام للمباني التاريخية ومشرف على الآثار الفرنسية القديمة. وعليه ليس مستغربًا انشغاله الى أقصى حدّ بالإكتشافات الأثرية والمذاهب العلمية، بحيث تناولها فنيًّا في أعماله الأدبية. وقبل أن يتعرف القراء الى مجلة مريميه الأدبية البارسية “Nouvelles” بسنوات قليلة، تم في مدينة الأموات الإترورية بونتي دِلاّ باديا اكتشاف مصنوعات خزفية للحِرف الفنية القديمة كانت محط اهتمام كل الأوساط المعنية بتلك الصناعات الفخارية القديمة. لم تحفّز كمية الأواني التي عثر عليها – فاق عددها في السنوات الأولى الثلاثة آلاف – تقييم هذا النوع من الفن فحسب، بل أعطت نظرية قديمة بدت وكأنه تخطاها الزمن حياة جديدة. هنا بالذات اشترك مريميه في المناقشة العلمية بلا جدال إنما بالتزام لا لَبس فيه. ذلك أن الوصف الذي تناول جوهر وتقنية فن الرسم على الخزف لا يدع مجالاً للشك في أن الوعاء جاء تقليدا لتلك القطع التي وجدت في مدينة الأموات التي وجدت في وقت سابق.

كانت حجج المنقّبين عن الآثار بسيطة الى حدّ ما. فحيت تضم مقبرة واحدة هذا العدد الكبير من الأواني، لا بد أن يكون مصدرها معامل إترورية محلّية لصناعة الفخار وأن استيرادها من اليونان مستبعد بحسب مزاعم معارضي الفرضية الإترورية. فقد سبق لفيليبو بوناروتا أن نشر بالكلمة والصورة أولى الأواني الإيطالية المكتشفة باعتبارها أمثلة على صناعة الفخار الإترورية، وحذا فرانشيسكو غوري حذوه. فكلاهما ينحدران من توسكانا، من هنا الشكوك التي راودت بعض المطّلعين بأن المذكورَين شاءا أن ينسبا تلك المصنواعات الى الاتروريين. استند المؤلفان في تدليلهما بادئ الأمر الى مكان اكتشاف الأواني الخزفية الذي تأكدت صحته في زمنهما، أي في القرن الثامن عشر، ليس فقط بالنسبة الى صقلية وكمبانيا، بل أيضا الى توسكانا، قلب الإتروريين النابض. كما استشهدا بما نقل عن مؤلفين قدماء يرجعون الخزف الى مدينة اريزو الإترورية، بينما هو يرقى حقيقة الى عهد الرومان. ويشير البرهان الثالث الى تطابق مزعوم في الإبداع الفني بين كؤوس الأضحية البرونزية الاترورية وصور الأشخاص على الأوعية الخزفية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو أن من يريد الطعن بآراء باحثين في الخزف أعطيا قبل 250 عامًا الدفع للإهتمام بمصنوعات الحرفيين القدماء، قد وقع فريسة أخطائهما. فالأمر لا يتعدّى كونه تصورات وهمية كثيرا ما جرى عبرها تمرير البراهين اغتصابًا. ذلك ان اللقيات قد وجدت لتدعم الفترة التي سبقت تاريخ توسكانا المجيد، وأنه لا بد من أن تنسب الأوعية الى الإتروريين من خلال المغالاة في تقدير أمكنة الإكتشاف وايجاد الأدلة الفنية المركّبة.

بعد مرور اربعين عاما على بحوث بوناروتا وغوريس الموجزة عمد أحد علماء الآثار الإيطاليين مجددا الى جمع كافة البراهين والعلل الباطلة لإثبات الأصل الاتروري لفن الأواني القديم.

 

أصول غامضة

بحسب المؤرخ والرحالة اليوناني هيرودوتُس الذي زار العالم المعروف آنذاك لا سيما بلاد الرافدين وفينيقيا ومصر، ينتسب الاتروريون الى ليديا التي تركوها هربًا من المجاعة. فإذا كان هذا الرأي هو المرجح في العصور القديمة يرى آخرون بأن الاتروريين هم سكان أصيلون كانوا يسمّون أنفسهم رازينا، ظهروا أواخر القرن الثامن ق.م. في توسكانا، غير أن أصلهم لا يزال موضع نقاش. أنشأ الاتروريون مدنًا قوية وغنية مجمّعة في اتحادات على رأس كل منها ملِك. ثم انتقل الحكم أواخر القرن السادس ق.م. الى ولاة سنويين وجاعيين. أصبحوا أسياد روما من القرن السابع الى السادس ق.م.، وبسطوا سيطرتهم حتى كَمبانيا وسهل بو وتميّزوا بحضارة فريدة. إلاّ أن خصوصية كل مدينة أضعفتهم أمام اليونانيين والسمنيتيين والغاليين وبخاصة أمام الرومان الذين استولوا، اعتبارًا من القرن الرابع ق.م.، على مجمل توسكانا. تلك الاتحادات، شأنها شأن مثيلاتها الإغريقية، لم تكن قوية بما يكفي لدرء الحرب بين المدن أو لتأمين الوحدة. وقد كان للدين الإتروري الذي تجاوز تلك الهزائم تأثير عميق على الدين والمؤسسات الرومانية. يُذكر أن معتقداتهم الدينية تشبه تلك التي كانت سائدة في بلاد الرافدين قبل آلاف السنين.

انفتحت الحضارة الإترورية بسرعة على الخارج. وتعتبر الأدوات الغنية المستوردة التي تم اكتشافها في المدافن خير شاهد على نمو التجارة البحرية. فقد تمكنوا، بفضل اتصالاتهم بشعوب أخرى وبخاصة اليونانيين، من تحسين تقنياتهم العسكرية، ما ساعد بلادهم في فرض السيطرة على الشعوب الإيطاليانية (قبل العهد الروماني). نشير الى أن روما التي تطورت من قرية الى مدينة قد خضعت من عامي615 الى 509 لحكم سلالة إترورية قبل أن تجتاح إتروريا 265 ق.م. فأصبحت مزدهرة وقوية في ظل الملوك الاتروريين الى درجة انها باتت قادرة على ادارة شؤون معظم لاتيوم (في أواسط ايطاليا) حتى بعد طرد آخر ملك اتروري من المدينة. ويؤكد العلماء ان الرومان اقتبسوا من الاتروريين مؤسساتهم السياسية كمنصب الحاكم على سبيل المثال. ولقد بلغ الإتروريون بين القرنين الخامس والرابع ق.م. مستوى رفيعًا من الثراء الذي مصدره في جزء منه مناجم الحديد، انما بشكل أساس جراء سيطرتهم على التجارة غربي البحر المتوسط.

 

لغة الإتروريين وثقافتهم

تغص متاحف العالم الكبرى بروائع المصنوعات الإترورية. وتجود علينا مدافنهم في ايطاليا بنماذج بديعة من فن ذلك الشعب القديم. ومع ذلك يظل الإتروريون احدى الحضارات الزائلة الأكثر غموضًا. لماذا؟ وما الذي يجعلنا نعرف عن بنية المجتمع المصري القديم، على سبيل المثال، أكثر مما نعرفه عن الإتروريين الذين تعاطوا التجارة مع المصريين؟

أحد الأجوبة الرئيسة على هذا السؤال المعقّد هو أنه لم يعثر بعد على “حجر رشيد” الإتروريين. فحتى مطلع القرن التاسع عشر كانت كتابات مصر القديمة أيضا مطلسَمة تماما حيث كان من المستحيل قراءة الخط الهيروغليفي المصري. الى ان اكتشف جنود نابوليون 1799 بمدينة رشيد على النيل وبمحض الصدفة قطعة من البازلت الأسود عليها كتابة باللغات الهيروغليفية. ومنذ ذلك الحين أمكن تبيان أسرار التاريخ المصري.

لم يتم حتى الآن العثور على أدب اتروري. بالمقابل اكتشف علماء الآثار نقوشًا عديدة، معظمها على مقابر هي مع الرسوم الجدارية من أهم مخلفاتهم، وتوصلوا الى حل رموز بعض الكلمات المكتوبة بحروف تشبه الى حد ما أبجدية اليونانيين. الاّ ان احدا لم يفهم الى اليوم بناء وتركيب جمل تلك اللغة التي يبدو انه لا يجمعها جانع لا باللاتينية ولا باليونانية. وحتى لو عثر على مفتاح الحل لما أتاحت لنا المخطوطات النادرة التي وصلت الينا معرفة شيء عن حياتهم اليومية. لكنها قد تمكننا من اقامة صلات بين اللغة الاترورية وتلك التي كانت رائجة في مناطق أخرى من العالم، ما قد يعطينا قرائن قيمة عن أصول هذا الشعب. ثمة على الأقل وثيقة يسعى الأخصائيون بشكل حثيث لفك رموزها، اذ انها تعد بإعطاء لمحة عن جانب من الحياة الاترورية التي قد تتجاوز الطقس المأتمي. ففي نهاية القرن التاسع عشر تم العثور على نص اتروري طويل في أربطة مومياء أحضرها معه من مصر أحد الدبلوماسيين الكرواتيين. وطبيعي أن الرجل لم تكن لديه أي فكرة عما كان يوجد في مذكرات رحلته. بعد موته جرى تسليم المومياء الى متحف زغرب حيث اكتشف النص الإتروري المخطوك على ظهر الأربطة. وقد ظل المؤرخون على مدى سنوات طويلة يتشارون حول تلك الكتابة، إذ كانوا يعتقدون ببساطة أنهم بصدد لغة ذات أصل مصري. 1892 أدرك بعض الخبراء الألمان ان الأمر يتعلق في الواقع بنص اتروري مؤلف من 216 سطرًا بدا أنه نوع من بيان عام ديني. وقد بات يعرف بكتاب المومياء ويتكون بكل وضوح من مقتطفات عائدة لنص أكبر حجمًا. ويسود الاعتقاد اليوم بأن الصبيّة المكفنة تحت الأربطة لم تكن اترورية، بل ان محنطين مصريين تولّوا ببسطة قص قماشة من الكتان جاء بها الى مصر تجار أو مستوطنون اتروريون وعليها تلك الكتابات. لا عجب في هذه الممارسة حيث ان المصريين قلّما اهتموا بمصدر القماش الذي كانوا يستعملون للف أجساد موتاهم.

 

أين يكمن اللغز الإتروري؟

منذ بات معلوما ان الوثيقة الملغزة قد صيغت بالتأكيد بالإترورية لم يوقف الأخصائيون العمل على فك رموزها. وبالرغم من كل الجهود التي بذلها اللغويون فإنهم لم يتوصلوا بعد الى اكتشاف سر هذا النص الغامض. وكما قال احدهم “الحقيقة ان لغة مجهولة لا يمكن فك رموزها الاّ بمقارنتها بلغة معروفة”. 1964 عثر احد الخبراء بتاريخ الإتروريين الإيطالي ماسيمو بالوتينو على ثلاث لويحات ذهبية بينما كان ينقب في موقع معبد إتروري بالقرب من روما.إثنتان منهما حفر عليهما بالإترورية والثالثة بالبونية، لغة الفينيقيين التي كانت معروفة آنذاك. هل كان يكمن هنا المفتاح الذي ما برحوا يبحثون عنه؟ بعد شهر من الإنفعال هدأ الحماس. صحيح ان اللويحات الذهبية شكلت اكتشافا ساحرا، لكن اي مقارنة لغوية لا تبدو ممكنة: فالبرغم من ان النص البوني يتناول الموضوع عينه، الا انه لم يكن الترجمة الدقيقة للنصوص الاترورية، ثم انه كلن جد مقتضب ليسمح باستخلاص دلائل حول قواعد اللغة المجهولة. وعليه لا يزال علماء الآثار ينتظرون صدفة سعيدة، حجر رشيد جديد، لإزاحة الستارعن السر المحيط بكتاب المومياء. يبقى القول ان الإترورية ليست لغة هندوأورورية كاللاتينية واليونانية وأن جزءا كبيرا من مفرداتها ما زال مبهمًا. ثم انها لغة مزجية او مركّبة (تربط اللواحق بجذر الكلمات) كالباسكية أو التركية. والواقع ان الإترورية يمكن قراءتها، اذ انها مكتوبة بحروف يونانية تكيفت مع اللغة، كما ان معظم النقوش مفهومة: وهي تشمل بخاصة شواهد القبور ونذورا جد قصيرة تضم أسماء علم.  لكن النصوص الأطول، ومنها تلك التي اكتشفت على مومياء زغرب، لا تزال خارج نطاق الفهم.

على العموم ان ما نعرفه عن الحضارة الإترورية ليس سوى ثمرة تكهنات. من المعلوم ان الإتروريين حكموا جزءًا كبيرا من ايطاليا على مدى ثلاثة قرون قبل ان تطردهم قوة روما المتعاظمة. وكان لهم دور ريادي فيها. فبعد تبنيهم الأبجدية استعملوها على نطاق واسع ونقلوها تدريجًا الى المناطق الخاضعة لهم وبالتالي الى الرومان. كانوا شعبًا شديد التديّن ترك كنوزا فنية لا تحصى. سافروا كثيرا وتعاطوا التجارة مع بلدان بعيدة في زمن اكتفى جيرانهم في شبه الجزيرة بالعيش من الزراعة. عدا ذلك فإن معظم معارفنا متأتية من قصص، ربما جزئية، روّادها رومان لم يضمروا سوى الإحتقار للشعوب التي احتلوها بقوة السلاح. وبرأيهم ان الإتروريين كانوا أفظاظًا، فاسقين وشهوانيين. ومع ذلك فبعد ان سحقوهم وقضوا عليهم عمليًّا، مضى الرومان يبحثون في اتروريا عن أنبيائهم وسحرتهم، إذ كانوا يعتقدون بأن الإتروريين كانت لديهم موهبة معرفة مشيئة الآلهة. لقد برع الإتروريون في تصنيع المعادن وتشكيل الطين المشوي. كانت لهم مراسم دينية معقّدة، واهتموا بالحياة بعد الموت والتكهن بالمستقبل من خلال دراسة تحليق الطيور وأحشاء الحيوانات. كما أقاموا مبارزات كانت بمثابة قرابين بشرية جرى تقديمها في مآتم منظمة. ثم حولها الرومان في ما بعد الى المصارعة.

تساءل الرومان كالإغريق عن اصل الإتروريين ليس آخرًا بسبب الطابع الشرقي المميز لفنهم ولأن لغتهم لا تشبه اي لغة اخرى محكية في منطقة الشرق الأوسط الغربي. ويعتقد أنهم جاؤوا من بلدان جدّ بعيدة كونهم بحارة بارعون تعاطوا التجارة مع اليونان وشمال أفريقيا والشرق الأدنى.

 

لماذا الإهتمام بحضارة الإتروريين؟

بدأ الإهتمام بالحضارة الإترورية 1828 عندما شاهد فلاّح من بلدة فولتشي التي تبعد 80 كلم. الى االشمال الشرقي من روما فجأة إحدى بقراته تختفي من أمامه كما لو أن الأرض ابتلعتها. لقد سقط الحيوان في قبر إتروري هو جزء من شبكة واسعة اكتشفت فيها أشياء مرسومة ومنحوتة لا تحصى – اوعية خزفية، تماثيل برونزية، منحوتات وحُلى. وسرعان ما نشط هواة المجموعات. والواقع أنه كان يكفي المرء التفتيش بقليل من العناية حتى يقع على كنوز حقيقية. فراح مالكو أراضي أغنياء وفلاّحون فقراء وسواهم ينهبون بلا حياء. ولسوء حظ علماء الآثار والمؤرخين فقد فقدت الى الأبد معلومات قيّمة كثيرة عن الإتروريين، لآن سارقي المدافن كانوا في غالب الأحيان يتخلّصون من كل ما بدا أنه لا يدرّ لهم مالا سريعًا.

كانت التحف الإترورية مثمّنة الى درجة أن الأسواق باتت تغصّ بأشياء مزيّفة لا تحصى ولا تعدّ. فقد تعرّض متحف نيويورك الفني المهيب   Metropolitan Museum of Art لخديعة مزيفين ماهرين عندما دفع مبلغ 40000 دولار لقاء زوج محاربين “إتروريين” تم تصنيفهما اليوم على أنهما صنعا في القرن العشرين، قياسًا بأسلوب الأعمال الفنية الإترورية العائدة الى القرن الخامس ق.م.

د.ايلي مخول

عن ucip_Admin