أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | النرجسية المرَضية… والتربية
النرجسية المرَضية… والتربية
النرجسية المرَضية... والتربية

النرجسية المرَضية… والتربية

عندما يولد الطفل، يكون كالصفحة البيضاء. يملأ الأبُ والأمّ هذه الصفحة التي ستشكّل لاحقاً التكوينَ الشخصيّ للطفل. تبدأ التربية منذ الأيام الأولى لولادة الطفل، فنظرةُ الأمّ له واهتمام ورعاية الأب لحاجياته تَصقل شخصيتَه وتُحدّدها خلال السنوات المقبلة. ويَعتبر علم النفس بأنّه لا يمكن تحديد الشخصية قبل سِنِّ النضوج الفكري عند الشخص (أي ما بين 18 و21 عاماً). وتأخذ التربية أيضاً منحى تدريب السلوك من خلال تقليد الطفل تصرّفات الأهل ومن خلال المكتسبات الاجتماعية والسلوكية. بالتالي يكتسب الطفل السلوكَ والأخلاق والعادات وطريقة التعامل والتكوينَ الشخصي من الأهل. وطبعاً يمكن أن تؤدّي التربية غير السليمة إلى تكوين شخصيات ذات سلوكيات غير مستحَبّة، منها الشخصية النرجسية. فما هي هذه الشخصية؟ وكيف تؤثّر التربية على تكوينها؟سلوك الأهل والأسرة المحيطة بالطفل، والأصحاب، كما الإرث الثقافي… عوامل تؤثّر بشكل مباشر في شخصية الطفل واتّجاهاتها المستقبلية. التربية الخاطئة قد تكون السببَ المباشر للمشاكل الفردية وللسلامة النفسية وصولاً إلى الانحرافات والاضطرابات الشخصية.

وهناك العديد من اضطرابات الشخصية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام الإنتاج الانفعالي والاجتماعي عند الإنسان، ومنها النرجسية.

ماهي النرجسية المرَضية؟

تَعتبر الدكتورة حمدة فرحات، المعالِجة النفسية والأستاذة المحاضِرة في الجامعة اللبنانية، أنّ النرجسية هي اضطراب مزمِن وشامل في الشخصية، كما لها صفات وملامح تتجلّى في السلوك.

ويُصنَّف هذا الاضطراب كواحدٍ من ضمن 9 اضطرابات شخصية في الدليل التشخيصي الأميركي الخامس والذي يقسّم الأمراضَ والاضطرابات النفسية بشكل دقيق.

ويفسّر الدليل التشخيصيّ النرجسية بأنّها نمطٌ ثابت من العظمة في الخيال أو السلوك، وبالحاجة إلى الإعجاب والافتقار إلى التعاطف.

يبدأ هذا الاضطراب بالظهور في مرحلة البلوغ الباكر، ويُستدلّ عليه من خلال توافرِ 5 من العوارض التالية أو أكثر في شخصية الإنسان:

أوّلاً، شعور بعظمة وبأهمّية الذات بشكل مبالَغ فيه، مثلاً بالنسبة للإنجازات والمواهب. ويَتوقّع الشخص النرجسيّ أن يعترف الآخرون بتفوّقه دون أن يحقّق إنجازات باهرة. فـ«المُصاب» بالنرجسية، يشعر بأنّه متفوّق دائماً على الآخرين وبأنه مهمّ وأذكى من غيره.

ثانياً، يسافر في خيالاته ويَحلم بالنجاح اللامحدود أو القوّة أو التألّق أو الجمال أو الحبّ المثالي.

ثالثاً، يَعتقد الشخص النرجسيّ بأنه متميّز وفريد من نوعه ولا يتمكّن من فهمِه إلّا الأشخاص المميّزون أو أبناء الطبقات الاجتماعية الرفيعة وأصحاب المراكز المهنية العليا.

رابعاً، ينتظر الشخص النرجسيّ أن يعبّر له الآخرون عن إعجابهم المفرط به.

خامساً، يشعر دائماً بأنّه يحتلّ مراكزَ الصدارة، ويتوقّع من الآخرين معاملة تفضيلية تفوق المعقول، أو الامتثالَ التلقائيّ لتوقّعاته.

سادساً، هو استغلاليّ في علاقاته الشخصية، أي إنّه يستغلّ الآخرين لتحقيق ما يصبو إليه.

سابعاً، يفتقد إلى التعاطف، ويرفض الاعترافَ بمشاعر الآخرين أو التماهي مع حاجاتهم.

ثامناً، غالباً ما يَحسد الآخرين أو يعتقد أنّهم يكنّون له مشاعر الحسد.

تاسعاًً، يُبدي سلوكيّات أو مواقف متعجرفة ومتعالية.

دور التربية في تكوين النرجسية المرَضية

كما ذكرنا، النرجسيةُ المرَضية كاضطراب تؤثّر في كافّة جوانب الشخصية والحياة الاجتماعية والمهنية والخاصة وحتّى في الزواج. وإذا أردنا الغوصَ في أساس وأسباب هذا الاضطراب علينا العودة إلى الطفولة والتربية، خصوصاً العلاقة مع الأمّ منذ الولادة.

تفسّر الدكتورة فرحات، بأنّ «دور الأمّ في مجتمعاتنا هو الدور الأساسيّ للمرأة. وعندما تُرزَق «هذه الأمّ» بطفلها، وخصوصاً إذا كان ذكراً، تُقدّم له كلَّ اهتمامها لأنّه يشكّل مبرِّراً لمكانتها في المجتمع الذكوري. تُبالغ في حبّها له إلى درجة التعلّقِ المرَضي الهجاسي. وينشأ هذا الطفل بشكلٍ غير واقعي، أي تحرمه أمُّه من خوض تجارب الحياة التي تقتضي الاعتماد على الذات.

كما يتبنّى اعتقاد والدته الخاطئ بأنّه فريد لدرجةٍ لا يمكن مقارنتُه بأحد لأنه امتداد نرجسيّ لها. ذلك يؤدّي إلى هشاشته وعدمِ مشاركته في الأنشطة وتَعالِيه على الرفاق وعدمِ إنتاجيته. وعندما يَفشل يجد أمَّه بجانبه تُبرّر له فشَله، فيعتمد عليها في كلّ «شاردة وواردة».

يُعمّم الطفلُ النرجسيّ هذه الأفكار التي ورثها من المجتمع ومن والدته على حياته، وهي بدورها ورثَتها من المجتمع أيضاً. وتُرافقه هذه الأفكار خصوصاً في فترة المراهقة حيث تنمو «الأنا» التي تلعب دور «التواصل مع المجتمع». وتتضخّم «هذه الأنا» وينتقل إلى مرحلة الرشد حاملاً معه هذا الاضطراب، ويتجلّى خصوصاً عندما يبادر إلى إقامة علاقة عاطفية أو ارتباط.

فيتوقّع الشخص النرجسيّ، ذَكراً كان أو أنثى، أن يعامله شريكُه بالطريقة نفسِها التي عاملته بها والدتُه. يطلب من الشريك وبشكلٍ لاواعٍ أحياناً «تبنّيه» دون أن يقدّم أدنى مجهود لخدمة ونموّ العلاقة. ويتجلّى ذلك بشدّة عندما يُرزَق بأبناء، فيضيع في الأدوار بين دور الأب ودور الإبن.

الشخصية النرجسية

تؤكّد الدكتورة فرحات، أنّ «في حالة النرجسية المقبولة اجتماعياً أو عندما تتّسم شخصية الإنسان بالنرجسة، يكون هناك فرقٌ كمّي ونوعيّ بينها وبين المرَضية. مثلاً قد نجد شخصاً يهتمّ بنفسه وفي المقابل يهتمّ بالآخرين…

نصائح ذهبية للأمّهات

لتفادي الوقوع في فخّ تربية طفلٍ نرجسي، على الأمّهات التعامل بعقلانية مع هذا الطفل. ذلك لا يعني أن لا يُعبّرن له عن الحبّ وأن يَكبتنَ عواطفهنّ، إنّما أن يخاطبنَه بصِدق ويتفاعلنَ معه حسب الإنجازات التي يحقّقها، بدون المبالغة في تقييم إنتاجه. وعلى الأهل تشجيعُ الطفل من خلال الثناء على النقاط الإيجابية في حياته، والإشارة في المقابل إلى السلبيات بهدفِ إصلاحها.

ما يُتوقّع من الأهل تحفيزُ الطفل على المشاركة في الأعمال المنزلية، واللعبُ مع الرفاق ألعاباً مبنيّة على احترام الآخر ودوره، وتعليمُ الطفل مساعدةَ رفاقِه عند حاجتهم، وتقديمَ الهدايا للآخرين في المناسبات، والاطّلاعَ على سيرة حياة المكافحين والاقتداءَ بهم.

ودورُ الأهل أيضاً تنبيه الطفلِ إلى أنّ الحياة تحمل، إلى جانب الأمور الجميلة، الصعوبات أيضاً، ولا بدّ من التفكير بطرقٍ واقعية لحلِّها. كما عليه التفكير بالآخَر ووضعُ نفسِه مكانَه ليفهم مشاعرَه.

السيكودراما مفيدة جداً في هذا الإطار، بالإضافة إلى ألعاب الموسيقى، إذ تُعوِّد الأطفالَ على احترام الدور في العزف أو الغناء واكتشاف متعة المشاركة والتبادل، وكلّ ذلك يُكوِّن شخصيةً مسؤولة ومنفتحة بعيدةً عن الوقوع في الاضطراب النرجسيّ.
د.انطوان الشرتوني
الجمهورية

عن ucip_Admin