أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | سحر الأمعاء بقلم د. ايلي مخول
سحر الأمعاء  بقلم د. ايلي مخول
سحر الأمعاء

سحر الأمعاء بقلم د. ايلي مخول

د. ايلي مخول

صدر عن منشورات Nouvelle édition augmentée (ACTES SUD) عام 2014، LE CHARME DISCRET DE L’INTESTIN ، هو الترجمة الفرنسية لكتاب Darm mit Charme من تأليف الطبيبة الألمانية الشابة جوليا إندرز تكشف فيه أسرار العضو المنسي: المعدة. وما يطلق عليه “الدماغ الثاني” الذي يعتبَر المفتاح لجميع أنواع المشاكل، من الاكتئاب إلى زيادة الوزن، ومرض باركنسون والحساسية. وقد لقي العمل أيضا صدى في وسائل الإعلام المطبوعة. فعلى سبيل المثال، أشارت صحيفة Frankfurter Allgemeine Zeitung إلى أن كتاب إندرز كان الأكثر مبيعًا. تُرجم الى حوالى 40 لغة وبيع منه في المانيا اكثر من مليون نسخة.

تقول المؤلّفة انها اتصلت بخمسة علماء كبار في هذا المجال، لكنها لم تتلقّ أي جواب، لذلك قررت إجراء أبحاثها الخاصة. وقد صاغت كتابها بروح الدعابة التي تساعد القارئ على تناول موضوع مهمل كهذا بابتسامة.

تعمل جوليا إندرز على تطوير معلوماتها من خلال دراسة خمسة عشر بحثًا حديثًا (من الولايات المتحدة، فرنسا، أوروبا) حول الميكروبات والبكتيريا التي قد تكون سبب كل علّة. الاكتئاب، زيادة الوزن، السكّري، أمراض الجلد … وما أدراك إذا كانت جميعها تؤثّر في الأمعاء.

في معرض صفحات كتابها الرائع، تحثنا بطريقة واضحة وجذابة، ومن خلال الحجج العلمية، إلى تغيير عاداتنا الغذائية وتجنب بعض الأدوية وتطبيق القواعد الملموسة لصالح هضم ناجح.

الكتاب معزَّز برسومات ملفتة أبدعتها ريشة شقيقتها جيل إندرز، تدعونا كي نتصالح مع معدتنا.

ولدت جوليا إندرز عام 1990. هي شغوفة بالأبحاث الخاصة بالجهاز الهضمي وتقوم بإنجاز أطروحتها في جامعة فرانكفورت. دفعها شفاؤها من مرض جلدي مُخطِر بفضل تغيير جذري في نظامها الغذائي الى الإنكباب على أحدث الدراسات في هذا المجال. فازت بالجائزة الأولى في مسابقة “ليل العلوم” البرلينية حيث يتبادل الباحثون الشباب بأكثر الطرق ابتكارًا نتائج دراساتهم، ولقيت مداخلتها نجاحًا باهرًا.

تقول في المقدمة: “ولدت في عملية قيصرية ولم أتلقّ الرضاعة الطبيعية. ما يجعل مني حالة نموذجية للكوكب المعوي في القرن الحادي والعشرين. آنذاك لو كنت أعرف المزيد عن الأمعاء لأمكنني أن أراهن على الأمراض التي قد أصاب بها. بداية لم أكن أتحمّل اللاكتوز. لم أتساءل أبدًا لماذا استطعت فجأة، بعد سنّ الخامسة، تناول الحليب مرة أخرى. سمِنت ثم نحِلت. ولفترة طويلة، سارت الأمور على ما يرام، حتى اليوم الذي أصبت فيه بذلك “الجرح”.

في السابعة عشرة، ودون سبب واضح، وجدت نفسي مصابة بجرح في ساقي اليمنى طال التآمه . بعد شهر، ذهبت لرؤية طبيبي الذي لم يكن يعرف حقًا ما في الأمر فوصف لي مرهمًا. بعد ثلاثة أسابيع، كانت ساقي مغطاة بالقروح. ثم جاء دور الساق الأخرى، وبعدها الذراعين والظهر. وجهي أيضًا أصيب بشكل متقطع. لحسن الحظ، كنا في موسم الشتاء، وكان الجميع يعتقدون أني مصابة بالعُقبولة أو أني لطمت جبهتي.

لم يستطع أي طبيب مساعدتي. كان يقال أنه نوع من التهاب جلدي غيرعادي. سُئلت عما إذا كنت قد تعرضت للتوتر، وما إذا كان لدي مشاكل شخصية. الكورتيزون حسّن الأمور قليلاً  لكن بمجرد توقف العلاج، كنت أعود إلى المربع الأول. على مدى عام كامل، صيفًا وشتاء، ارتديت لباسًا ضيقًا تحت سروالي حتى لا تلطخها الجروح. بعد فترة من الوقت، قررت أن أتحمّل المسؤولية بنفسي وبدأت أبحث عن معلومات. وعن طريق الصدفة، وقع بين يديّ تقرير يتطرّق الى وصامة pathologie مماثلة. ويتحدث عن شخص إعتلّت صحته بعد تناول مضادات حيوية، وأنا أيضًا ، خضعت لهذا العلاج قبل أسابيع قليلة من الجرح الأول.

إنطلاقًا من ذلك لم أعد أعتبر نفسي إنسانًا يعاني من مشاكل جلدية، ولكن من مشاكل معويّة. فوضعت مشتقّات الحليب جانبًا، وقلصت الغلوتين إلى أدنى مستوى، وألحقتها بعلاجات بكتيرية … وعلى العموم رحت أتناول أغذية مريئة. في ذلك الوقت قمت باختبارات مجنونة بعض الشيء… لو كنت يومها طالبة طب، لما تجرأت على تجربة نصفها. طوال أسابيع، إعتمدت نظامًا غذائيًا غنيًّا بالزنك، ما مكّنني في الأشهر التالية من تطوير حاسة الشمّ لديّ بشكل غير طبيعي.

وبفعل التحايل انتهى بي الأمر إلى السيطرة على مرضي. لقد كان ذلك بالنسبة لي انتصارا حقيقيا، وفرصة لكي أدرك بالعمق أن المعرفة يمكن أن تكون سلاحا. فبدأت دراسة الطب.

في السنة الأولى، وفي إحدى الحفلات الساهرة، كنت جالسة بجانب صبي كان يعاني من نفَس نتن. كانت رائحة كريهة وغريبة جدًا – تختلف عن التبخّرات المهدرجة والشديدة الحموضة التي تصدر عن السادة المجهدين، وأيضًا عن العطر الزكي الذي يفوح من تلك الطنتات العجوزات وهنّ يلتهمن الحلوى. بعد قليل، ذهبت للجلوس بعيدًا. في اليوم التالي مات الصبي، منتحرًا. هذه القصة لم تفارقني. هل يمكن أن تكون عملية هضم خائبة، علاوة على الرائحة، هي التي تؤثرأيضًا على حالتنا النفسية؟

بعد أسبوع، سمحت لنفسي أن أتحدّث عن فرضيتي إلى صديقة. بعد بضعة أشهر، كانت تلك الصديقة في حالة يرثى لها بسبب التهاب مَعِدي مِعوي قويّ. وعندما التقينا مرة أخرى، بعد تلك الرواية، أكدت أنه قد يكون هناك بعض الحقيقة في فرضيتي: منذ وقت طويل لم تشعر بمثل هذا السوء، بما في ذلك الحالة النفسية. لم أكن بحاجة إلى المزيد لتشجيع نفسي على التعمق في الموضوع. فاكتشفت فرعًا بحثيًّا كاملا مكرسًا للعلاقة بين الدماغ والأمعاء. إنه فرع يتطور بسرعة. قبل عشر سنوات، كانت المنشورات حول هذا الموضوع نادرة؛ واليوم تُعدّ المقالات العلمية بالمئات. إن تأثير الأمعاء على الصحة والراحة هو أحد مجالات البحث التي تميز عصرنا. فقد صرّح روب نايت، عالم الكيمياء الحيوية المشهور، لمجلة نيتشر     Nature أن هذا الفرع يبشر بخير جَمّ ، على الأقل مثل أبحاث الخلايا الجذعية! بالنسبة لي، لقد فتحت للتو باب عالم كان يمارس عليّ سحرًا متزايدًا.

خلال دراستي، وجدت أن هذا الفرع الطبي كان يعامل كالمقطوع من شجرة. ومع ذلك، فإن الأمعاء هي عضو منقطع النظير.إذ يشكل ثلثي جهازنا المناعي، ويعرف كيفية استخلاص الطاقة من شريحة الخبز كما ومن النقانق بالمايونيز وينتج أكثر من عشرين هرمونًا خاصًا به. لكن خلال تدريبهم، لا تتاح للأطباء في كثير من الأحيان الفرصة لمعرفة الكثير عنه. في أيار 2013 عندما ذهبت الى لشبونة لحضور مؤتمر “Microbiome and Health” (البكتيريا المعوية والصحة)، كان عدد المشاركين متواضعًا. نصفهم يعمل في مؤسسات تملك الوسائل المالية للحضور عندما يتعلق الأمر ب”المستحدثات”: هارفارد، يال، أوكسفورد أو المختبر الأوروبي لعلم الأحياء الجزيئية في هايدلبِرغ.

أصاب أحيانًا بالهلع عندما أرى أن العلماء يتبادلون المعلومات الرئيسة في جلسات سريّة – بمعزل عن الجمهور العريض. صحيح أن الحصافة العلمية هي أحيانا أفضل من الإفتراض المتسرّع. لكن الخوف قادر أيضا على تدمير فرص حاسمة. في الحقل العلمي لا شك في أن الأشخاص الذين يشكون من بعض المشاكل الهضمية غاليا ما يعانون أيضا من اضطرابات عصبية معوية. ذلك أن أمعاءهم ترسل إشارات الى منطقة في الدماغ تعالج الشعور بالغثيان، رغم أن كل ما قاموا به لا ينبغي أن يطلق تلك المشاعر. أي أن المرضى يشعرون بالغثَيان دون أن يعرفوا السبب. فإذا عمد طبيبهم الى تصنيفهم “مرضى نفسانيين”، لن يفيدهم ذلك بشيء! وهذا مثل من أمثلة كثيرة يجب أن تحثّنا على تعميم نتائج البحث بسرعة أكبر…

ذلك هو الهدف الذي حدّدته في هذا الكتاب: أنا أريد أن أفتح بابًا على العِلم وأتولّى نشر ما يتحفّظ عليه علماء الإختصاص في بحوثهم أو يتناولونه وراء الأبواب المغلقة لقاعات المؤتمرات – بينما ينتظرعدد من الناس أجوبة بلا طائل. أفهم جيدا أن أشخاصًا كثيرين يعانون من أمراض يصعب العيش معها في الحياة اليومية يصابون بخيبة الأمل من الطبّ. ليس لديّ دواء عجائبي أبيعه – وحتى الأمعاء السليمة ليس بوسعها أن تشفي من كل الأمراض. بالمقابل أودّ أن أروي ما يجري في الأمعاء وأكشف عن سحرها الخفيّ وأميط اللثام عمّا تأتي البحوث بجديد وأفسّر كيف نستطيع استثمار تلك المعارف لتحسين حياتنا اليومية.

من أجل تقييم وترتيب النتائج العلمية أستند الى دراساتي الطبية وأطروحة الدكتوراه لدى معهد علم الجراثيم الطبي. كما أعوّل على خبرتي الشخصية واكتشافي للكوكب المعوي لأنقل تلك المعارف الى الجمهور العريض. ولكي لا أتخبط في التفسير أعتمد على شقيقتي التي تصغي بانتباه الى كل صفحة كتبتها. وإذا ما سهتُ في الأمر تنظر إليّ وتقول باسمة: “هذه الصفحة يجب عليك أن تعيدي صياغتها من جديد”.

 

عن ucip_Admin