أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | «ميرنامة»: تحفة بأنفاس العشق الصوفي
«ميرنامة»: تحفة بأنفاس العشق الصوفي
«ميرنامة»: تحفة بأنفاس العشق الصوفي

«ميرنامة»: تحفة بأنفاس العشق الصوفي

عندما بدأت بقراءة رواية «ميرنامة» أو «الشاعر والأمير» للكاتب جان دوست، لم يكن الإيقاع السردي السلس هو ما جذبني فقط، بل التحايل على جدلية المألوف في الفن الروائي، والولوج بالقارئ إلى عالم من السحر الجامع لروافد القصة والشعر والفلسفة والمنطق معاً.المفترض في الرواية أن تكون قصة حياة الشاعر الكردي «أحمد الخاني»، الذي وُلد في محافظة هكاري، ثم انتقل إلى بابزيد حيث تدور أحداث الرواية. ولكنّ الكاتب أحاله الى شخصية مثالية وشبه قدسية، من خلال تسلسل الأحداث على لسان مَن يسردونها من أصدقاء للخاني وأعداء له، أو أناسٍ يشهدون للمكان والزمان والحدث.

أنواعُ البشر

من الواضح أنّ للخيال دوراً كبيراً في تفاعل الأحداث وتعاقبها، ولكنّ البراعة تكمن في حشد الأقنعة المختلفة بمعناها الأدبي لأنواع البشر، في مشهدٍ واقعي، ينقل القارئ من الإيعاز إلى الإنجاز، أي الوحي بأنّ خطْباً ما سيحدث، ثمّ إتيان هذا الخطْب في براعة صاخبة، ثمّ الإيجاز في شرح نهايته.

في بحثٍ محموم عن شخصيّة الخاني، يتوالى هؤلاء الشهود ويبلغ عددهم 21، والذين عاصروه في وصف شخصيّته والإسهاب في محاسنه أو سيّئاته.

هذا التصوير القصصي بطله الحبر الذي كان يكتب به الخاني، والذي سال من السماء كالمطر بكاءً عليه يوم موته، وشهد موهبته في الكتابة وعبّر عن مكنونات نفسه وآلامها، وحوّل حياة البعض من حوله ممَّن كرهه أو مَقته أو غار منه إلى جحيم لا يُطاق.

الخاني الشاعر الذي ثار على السلطة، ككلّ مثقف يرفض الجور والإستعباد، حاول جاهداً أن يبنيَ علاقةً بين القلم والصولجان، ولكنه لم يستطع فقتل في نهاية الرواية مسموماً، من دون أن يُعرف قاتله، بعد أن حامت الشكوك حول الرجل الملثّم الذي عادَه قبل أيام من وفاته.

تمسَّك الخاني باللغة الكردية، وكتب بها ودافع عنها وثار لموقف الأمير الصامت على مكر الأتراك خوفاً على عرشه.

ثوبُ القداسة

الخاني الذي اشتهر بكتابه القصصي الشعري «ميم وزين»، كان عاشقاً ولهاناً لفتاة ابنة تاجر ثري، باعها لتاجر مثله، دميم الخُلق والخَلق، على رغم عدم رضاها عن الأمر ووَلهها بالخاني، ولم يظفر منها هو إلّا بآهات يسكبها في شعره ويسطِّرها على ظهر أحزانه. وبقي في الظلّ عاشقاً متطرِّفاً للصوفية، متحرِّقاً بلظى حبّه المستحيل من دون أن ينساه حتى يلفظ آخر أنفاسه، وكان آخر ما تلفّظ به هو اسم حبيبته «بشنكي».

هذا الفن الصعب من فرط حذاقته، المحموم الأنفاس، الذي اعتمده الكاتب جان دوست في هذه الرواية، يبتكر مدرسة جديدة في الرواية المعاصرة. فهو يتنكّر بزيّ الراوي الروتيني ولكنه يفاجِئنا بطلامس تعبيريّة سرعان ما تتفكّك في الأذهان لتُظهر عن براعة في الفلسفة الوضعية، وهي الفلسفة المستندة على المعرفة والبيانات الحسّية، والمعالجة المنطقية لسلسلة الأحداث المتتابعة.

ثم لا يلبث أن ينقلنا إلى الفلسفة التأويلية، والظاهراتية، ثم يعود بنا إلى صلب الواقع من دون أن يمسّ السرد بأيّ تحوير أو تتويه، ويجعله سرداً خبَرياً في مفاصل جوهرية حيناً ثمّ نمطاً حجاجياً، ثمّ يحيله إلى نمط إرشادي.

جان دوست تأثّر بشخصية الخاني حدَّ إلباسه ثوبَ القداسة، وهنا يكمن الضعف التأثري والتأثيري الذي يجب على الكاتب تجنّبه في كتاباته عادة حتى يكون حيادياً.

ولكنه لم يغفل عن تطويقه بشواهد وشهود وطبيعة، تؤكّد عمق الوعي الذي وصل إليه في شعره وإيمانه وتعامله مع الآخرين، إذ فضّل الحبر على المال، واستقبل في داره السكّير والعربيد والمؤمن والكافر، والحاسد والصديق، ليثبت أنّ الله غفور رحيم، وأنّه يجب على الإنسان مساندة أخيه الانسان مهما تدنّى إلى الدرك الأسفل، حتى يصبح للحياة معنى وللمروءة عنوان، وتشبّث باللغة الكردية على رغم عزف الكثيرين عن قراءتها ليرجع المجد للغته الأم، وليرسّخها في أعماق الناس.

أمّا أنّه مات مسموماً فلا أحد يدري إن كانت هذه هي النهاية المأساوية الحقيقية للشاعر الخاني أم أنها إضافة للتشويق أتت من جهة الكاتب.

رواية «ميرنامة» هي تحفة بأنفاس العشق الصوفي الذي ينساب خالداً في النهر الملكوتي للصلاة، وترنيمة حيّة لشاعر تاريخي لم يكرَّم في حياته ولكنه آنس أجيالاً تعيد إليه حقّه في تاريخ حياته وكتابته وقيمته الفكرية الكبيرة.
نسرين بلوط
الجمهورية

عن ucip_Admin