أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | 2000 سنة من شعور المسيحيين بالوحدة في ولاية كيرالا بقلم د. ايلي مخول
2000 سنة من شعور المسيحيين بالوحدة في ولاية كيرالا بقلم د. ايلي مخول

2000 سنة من شعور المسيحيين بالوحدة في ولاية كيرالا بقلم د. ايلي مخول

قبل ألفي سنة قام القديس توما بالتبشير بالإنجيل في جنوب الهند. تلاميذه لا يزالون هناك، يمارسون دينًا يرقى إلى أصول المسيحية ذاتها. وبالسماح لهم باختيار أساقفتهم، عاودت روما التواصل مع تلك الطوائف الغريبة المنبثقة من الأزمنة الرسولية.

شلومو لكولكم (السلام عليكم). نبرات التبريك الفظّة تتردّد تحت القبة المزخرفة التي تعلو المذابح الثلاثة ذات اللون الأخضر العائدة لكاتدرائية مار إيليا في كوتايام. هنا يتربع على حصير من ألياف جوز الهند، آلاف المؤمنين، نساء بأثواب الساري اللاّمعة من جهة، ورجال بالمرايل من جهة أخرى، جميعهم حفاة القدمين، ينشدون ترنيمة مرِحة بالمالايالامية، اللغة المحلية. في لفائف البخور، تطوى ثلاثة ستائر من الساتان ببطء، فتفصل موضع الخورس عن جناح الكنيسة، عازلةً “السماء والأرض“، على حدّ ما همس به يعقوب في شاربه الأسود. هذا الهندي العاري الساقين تلقى للتو من أيدي المحتفل بالقدّاس الخبز والخمر. “المناولة الحقيقية“، قالها وقد تغير وجهه.

هذا القداس الحافل بالألوان والمطبوع بورع يفوق الوصف، إستمر لأكثر من ساعتين. لكنه لم ينته بعد: يظهر الكاهن من جديد، بثوب القدّاس المزخرف، ليبارك رعاياه بالتناوب، ويرسم المصلوب النفليّ على الجباه المنحنية بتواضع. مئات الجباه! ولا أحد يتخلّف عن دعوة القس المتوّج كملِك.

   “إنه القدّاس الرابع في هذه الصبيحة”، يقول الأب بونوز مبتسمًا بينما يرتّب رداءه الكهنوتي الثقيل المطرّز بالذهب في السكرستيّا، حيث يرتفع بيت عِماد ضخم بأدراجه الحجرية يسمح، كما في أزمنة الإنجيل الأولى، بتغطيس شخص بالغ بكامله. “والعبارات التي سمعتم هي بالسريانية، لغة قريبة من الآرامية. عبارات لقّنها القديس توما، الذي يعني اسمه توأم بالآرامية، لأسلافنا بلغته، قبل ألفي سنة، عندما جاء يبشّر كيرالا بالإنجيل”.

أبناء الرعية الفضوليون، أولئك الذين ينتسبون الى عمود نسب توما، الرسول المتشكك الذي لم يؤمن بقيامة يسوع إلاّ بعد أن رأى ولمس جراحه، يخلّدون في كيرالا إيمانًا بدائيًا، مهَنوَدًا إلى حد كبير، يرقى إلى أصول المسيحية ذاتها. ألم يطلب يسوع من توما أن يذهب إلى الهند ليبشّر الناس الذين يعيشون خارج العالَم الروماني، وهو عالم لم يهدِه بولس وبطرس إلى الدين إلا فيما بعد؟ على أي حال، فإن الرسول االرائد قد بلغ في منتصف القرن الأول، سواحل مالابار، وهي منطقة بحيرات شاطئية فردوسية وجبال وعْرة، حيث تنمو بغزارة تلك التوابل التي كانت موضع تقدير كبير في العالم القديم من هال وفلفل وقرنفل. استقبل الرسول بفرح من قبل سكان متسامحين سرعان ما استمالتهم معجزاته، فأنشأ سبع كنائس، وهي أحداث ثابتة تؤكدها كتابات من القرن الثالث.

واليوم، لا يزال “مسيحيو القديس توما” هناك، يضمّون أكثر من ثمانية ملايين نسمة، أي ربع سكان ولاية كيرالا. حتى إنهم يمثلون واحدًا من الشعوب الرئيسة في المنطقة، حيث يتوسعون إلى جانب المسلمين (ربع آخر) والهندوس (النصف). ولقد بنت طوائفهم  النشطة والمندمجة الى أقصى حدّ في الحياة الإجتماعية، مئات الكنائس والمدارس والجامعات والعيادات ودور التوليد والمستشفيات، ما يجعل ولاية كيرالا واحدة من الأكثر عصرية وتعليمًا للأمّيّين (94 ٪) في الهند. ولاية يفوق فيها عدد حملة الدكتوراه في اللاّهوت والكتاب المقدس ما هو عليه في معظم الدول الأوروبية !

في أتشيكود، بالقرب من كوتشين، حيث نزل الرسول إلى البرّ، هناك ناعورة لقوارب صغيرة تشهد على حيوية إيمان ورثة القديس توما. وترسو في كل يوم تحت أشجار جوز الهند مراكب تُقلّ آلاف من الحجاج جاؤوا لتكريم مؤسس “ديانتهِم”.

في بازيليك صغيرة جدًا اكتمل بناؤها هناك مؤخرًا، يتم الحفاظ على رفات الرسول التي ذُكر ان روما أعادتها قبل بضع سنوات الى أبناء عمومته الأبعدين في آسيا. أمّا صحة تلك الرفات – قطعة من العظم – فأمر مشكوك فيه، إذ ان جثة توما قد تم نقلها إلى إديسا بعد موته شهيدًا بالقرب من مِدراس على الساحل الشرقي للهند، حيث لا يزال قبره يلقى كل تبجيل. في هذا المزار الحقيقي من المناطق الاستوائية حيث تلتقي راهبات الأم تيريزا وعائلات التجار الأثرياء، فإن مشاهد الورَع مؤثّرة للنفس.

يروي الأب بايبي فارجيس، أستاذ اللغة السريانية  في كوتايام، وهي مدينة تكثر فيها الكنائس المسيحية: “لقد طوى الرسول كيرالا طيًّا (من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب)، يبشّر كل من وقع عليه”. وعلى جبل ملاياتور، رفع بيديه صليبًا كبيرًا مذهّبًا. وقامت القبائل المجاورة بمهاجمة الصرح بالحجارة، وسالت دماء. عندئذ إهتدى الهنود إلى المسيحية. وما زال المكان محجًّا  يؤمّه المؤمنون، خاصة بعد عيد الفصح.

 

نقطة جذب طقسيّة غير عادية

تحت شمس مضنية ما قبل هبوب الرياح الموسمية، تتسلق حشود مولعة بالعِبادة تنشد  تلك الجلجلة الرطبة المحاطة بالغابة.  فعلى قمة الجبل المقدس، تشهد صلبان كثيرة ضخمة مثبتة على ظهور الرجال على المعاناة التي تعرض لها بعض الحجاج عندما عاشوا بدَورهم آلام المسيح. وتبقى الكنيسة الصغيرة في حركة دائمة ليل نهار.

في أعلى الجبال المغطاة بمزارع الشاي الأخضر الغَضّ، نكتشف مكانًا آخر مذهلا. دير كيروسومالا هو بمثابة “جسم روحاني” حقيقي. الرهبان الذين تنسّكوا هناك يخضعون في آن لقانون رهبنة القديس مبارك  والطقس السرياني والزهد الهندوسي. بعد تقديم النذور، يرتدون ثوب السانيازين (الحكماء) الأصفر الزعفراني. الأب يسوداس ذو اللحية البيضاء والنظرة الثاقبة، هو رئيس ذلك المكان الفريد. أخبرنا بأن الأشرم، بحسب قوله، حيث يقيم، قد أسسه راهب بندكتي بلجيكي في خمسينيات القرن العشرين.

“نحن في الصميم هنود ومسيحيون في آن، شأننا شان جميع أبناء القديس توما الروحيين.  أفليست في بيت أبي منازل كثيرة ؟”

هنود، بالتأكيد؛ مسيحيون، بالطبع؛ كاثوليك، ليس دائمًا، ذلك أن أبناء القديس توما الروحيين مقسّمون اليوم، كي لا نقول مفرّقين، إلى عدة كنائس متميزة. على مرّ العهود وتحت وطأة التأثيرات المتتالية للفرس، في البداية، ثم للبرتغاليين الذين جاء بهم فاشكو دا غاما، وأخيراً للإنجليز، تطعّمت الطقوس الكلدانية والمارتومانية والدومينيكية والسريانية – المالابارية والسريانية – المالانكارية واللاتينية والبروستانتية، على الجِذع المشترك للمسيحية الرسولية الأصلية. وزيادة في تعقيد شجرة النَّسب تلك جِدّ المتشابكة، انقسمت بعض هذه الكنائس، سواء كانت تمارس الطقس السرياني أو اللاتيني، مرة أخرى إلى عائلتين متمايزتين، حيث خضعت الواحدة لسلطاتها الطبيعية – الكاثوليكوس، البطريرك والمتروبوليت بالنسبة للكنائس الشرقية، وللبابا ورئيس الأساقفة والمطران بالنسبة للكنائس الرومانية -، والأخرى التي أعلنت استقلالها وطالبت بحرية انتخاب سلطات الوصاية عليها بنفسها. في تلك الأدغال اللاهوتية والليتورجية الاستثنائية فإن الكنيسة الشرقية، المسمّاة أيضًا نسطورية، هي بلا شك واحدة من الأكثر إثارة للدهشة.

 

إنتصار القديس توما بعد وفاته

في تريسّور (تريشور قديما)، مقر إقامته الأرستقراطي، وتحت لوحة كبيرة تضمّ صورًا كاملة لأسلافه الملتحين كأنبياء، يعرض علينا مار أبريم، بطريرك تلك الطائفة ذات الإدارة الذاتية (30000 مؤمن)، مخطوطات سريانية ثمينة نجت من الإعدام بالحرق وتطبيع المبشرين الكاثوليك.

   “كنيسة الشرق تنحدر  من القديس توما مباشرة. ليس لدينا علاقة ببولس أو ببطرس. وما زلنا نرفض أن نقول “مريم، أم الله”، بل “أم يسوع”، كما قرر نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس، ما أدى إلى الحكم عليه العام 431 من قبل مجمع أفسس بجريمة الهرطقة. هل نحن نساطرة ؟ لن أذهب إلى هذا الحد، لكنني لا أصف هذه التسمية  بالشائنة. زِد على أنني استخدم كثيرًا، في كتبي، مصطلح “نسطوريون”، الذي حمله الكاثوليكوس عندنا زمانًا طويلا”..

منذ قرون تطالب الطوائف المسيحية السائرة على خطى القديس توما، بحقها في الإختلاف، بصفة كونها أعضاء كاملة في الجسم المسيحي، لكنها تقف على مسافة بينها، وغالبًا تجاه روما. حق أقرّ به الفاتيكان: ففي كانون الثاني 2004، حصلت الكنيسة السريانية- المالابارية، التي يستمر فيها صيام يونان ثلاثة أيام، وهي التي تستشير المنجمين دائمًا قبل عقد قران أتباعها من المؤمنين ويحمل شمامستها النباتيون رباط البراهمانيين المقدّس، على إذن بتعيين أساقفتها، وبالتالي كسر السلسلة المقدسة للانتقال الرسولي التي أسسها القديس بطرس قبل ما يقارب ألألفي عام.

د.ايلي مخول

عن ucip_Admin